طالعني للسيدةِ خبرٌ قصيرٌ، جد قصيرٍ، لم أجد لها في ذاكرةِ التاريخ الإسلامي الحفيظة سواه، لم آبه لهُ كثيراً أو أعنى به طويلاً، وخلَّفت السيدة ماضيًا إلى غيرها.. فإذا بالخبرِ يتتبعُ خاطري على الأثر، مُلِحَّا عليه تارةً، آخِذاً بخناقِه تارةً أُخرى.
وبينما الخبرُ القصيرُ وجهًا لوجهٍ مع خاطري الكليل، ندّتْ(1) عن خاطري همسةٌ خافتةٌ في تضاحكٍ حبيسٍ مستسلمٍ:
– أجل.. أنتَ خبرٌ قصيرٌ، جد قصيرٌ، ولكنَّكَ عظيمٌ جد عظيمٍ، وتعالَ طفْ بي، ودعْني أطوف حولَكَ.
فجعل الخبر يهزُّ خاطري، ويصيحُ:
السيدة زَيْنَبُ بنت حُمَيْد رضي الله عنها مثَّلَتْ الأمومة الواعية خير تمثيلٍ، بيدَ أنَّها عرفت كيف تنقل خطاها، بل وخُطى أولادها في الحياةِ وأُتيحَ لها التوفيق.
ففي العام الرابع الهجري، رزقها الله من زوجها هشام بن زَهْرَة بن عثمان القرشيِّ ولدًا دعتْهُ عبدالله(2)، وقضت السيدة وقتًا ما أهنأَهُ وهي ترقبُ ولدها يتواثبُ في حِجْرها وحولها، ويقفز بين تفاصيل طفولته وبين ضحكاته، وما أن صرَّحَ سلوكُهُ بأنَّهُ يَعي ما يسمع، ويدرك ما يقول حتى لقَّـنتْهُ الشهادتين، وملأت بمعناهما فؤاده الغَضّ(3)، وجعلت تتلو نصائحها على مسامعه.
ويومًا أحسَّت السيدة بتوَهُّجِ الأمومة بين جنبيها، فثـبـَّتـت عينيها على ولدها وقد تعدَّى خاطِرُها لحظتَها، وراحت صور ولدها في مستقبله تتراءى لها كما تطمحُ وترومُ، رأتهُ شابًا رائعَ الشبابِ يُدركُ أنَّ الحياةَ جدٌّ وصلابةٌ، ويتحمل نصيبَهُ من تبعات الدين ولا يكون عنها بمعزلٍ، وَيُـتِمُّ إنجاز واجبه الذي أناطه به القدر، ثم رأته رجلًا موفور الكرامة، رفيع المقام، يسعى في الحياة سعي ذوي النفوس الكبيرة.
وباتت الأمنية هي شُغْلها الشَّاغِل، ومتعتها التي تَهُفو إليها، وبوحيٍّ من بصيرة أمٍ رَؤومٍ(4)، وبهديٍّ من طبيعة سوية أخذت ولدها من يده لتضعه على الطريق الذي سيضع نفسًا كبيرةً بين جنبيه، قصدت به النبيَّ صلى الله عليه وسلم، كان ولدها ما زال يدرج في عَقْدَهُ الأول(5)، وقالت للنبيِّ آملة: يا رسول الله، بايعْهُ، أوقَف صلى اللهُ عليه وسلم بصرَهُ الشَّريف على وجه ولدها، وكأنَّنا بمحياه المشرق وقد صرَّحَ عن رضًا وابتسامٍ لا تَكْلُفَ فيهما وهو يقول: «هو صغيرٌ»، ثمَّ مدَّ يدَهُ الشريفة الحنون فمسحَ رَأْسَهُ، وَدَعَا لهُ بالْبَركةِ(6).
وعادت السيدة بولدها يتجلَّى على مُحيَّاها(7) إشراقٌ واستبشارٌ، زاهيةً بسعيها الموفقِ وثمرتِها اليانعة، تترددُ الدعوةُ النبويةُ في خاطرِها الصفيِّ فترنو إلى ولدها وتتحدثُ عيناها: لتغدون رجلًا عظيمًا مباركًا، وليكونن لك شأنٌ فليحرسْكَ اللهُ.
وغشتْ(8) الدعوة الشريفة حياة عبدالله بن هشام، وتلقى منها ضروبَ(9) بركةٍ عرفها وأَلِفَها(10)، وطفق يحيا فيها وينعم بها، حتى إنَّه «كانَ يُضَحي بالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ عن جميع أهلِهِ»(6)، وكل ما يستشعرُهُ من بركةٍ تحسّهُ السيدةُ في أحداثِ أيامِها كاملًا غير منقوصٍ، إنها لتحيا حياتَهُ وتتقلبُ بين أكنافِ الدعوة الشريفة ما بقيت لها في دنيا اللهِ حياةٌ.
وكرَّ الزمنُ وانساقتْ بعبدالله بن هشام الأعوامُ، وتوارت شمسُ الشبابِ لتسمحَ لشمسِ الشيخوخةِ بالتوهجِ، وطفقَ عبدالله يُجالسُ أحفادَهُ.
ومن آنٍ لآنٍ يضع يده على رأسِهِ يتحسس موضعَ اليد الشريفة، ويعتصرُ سعادة دنياه كلها في حديثه وهو يقصُّ عليهم خبر الدعوة النبويَّـة التي غابت خلف زمنٍ طويلٍ، والتي أحظـتْـهُ بأيام البركةِ والسكينةِ، وأنزَلتْهُ منزلًا كريمًا جعله موضع غبطة وإكبار كبار الصحابة، فيلْقونه في السوق وهو يشتري طعامه فيعجلون إليه قائلين: «أشركْنا فإنَّ النبيَّ قدْ دعا لكَ بالبركةِ»(11).
فحسبُهم الدعوة الشريفة من دافعٍ وحافزٍ لهذه الشَّراكة.
يقولُ زهرةٌ بن معبد حفيد عبدالله بن هشام: إنَّهُ كان يخرجُ مع جدِّهِ إلى السوق، فيشتري الطعام فيلقاهُ عبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير فيقولان لهُ: «أشركْنا فإنَّ النبيَّ قدْ دعا لكَ بالبركةِ».
ولم يذكر التاريخ تاريخًا لوفاةِ السيدةِ، وذكر أنَّ عبدالله عاش إلى خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وسبحتْ روحُهُ في الآفاقِ العلويةِ صاعدةً إلى ربها، لينالَ من ضروب بركة الدعوةِ النبوية في جنات الله كما نال منها في دنياه.. وما نحسبُ السيدةَ إلا وسوف تشاركُهُ بركتها هناك كما شاركتْهُ إياها هنا(12).
وهكذا عبَّرَ الخبرُ عن نفسِهِ كيفما شاء، ثم سكن بعدما قال:
واعلم أنَّ السيدة زينب بنت حميد رضي الله عنها تركت رسالة بيِّنةً الدلَالةِ إلى كل أم مستكينة متخاضعة، لائذةٍ بالصمتِ والدعةِ نحو بُـعْدِ أولادِها عن المنهج النبويِّ، تهتف بها: خُذي وَلَدكِ إلى هَدْىّ النبي صلى الله عليه وسلم.
______________________________
(1) ندّتْ: شذَّت عن القاعدة، وخرجت عن المألوف.
(2) الإصابة (5022) ترجمة عبدالله بن هشام.
(3) الغَضُّ: الطريُّ والحديثُ من كلّ شيء.
(4) رئِمتِ الأمُ ولَدها: أحبّتهُ ولزمته وعطفت عليه، فهي رَائمة، ورَائمٌ، ورَؤوم.
(5) يدرج: يمشي، وفي عَقْده الأول: أي كان عمره أقل من عشر سنوات، والعَقْد عشر سنوات.
(6) حديث صحيح: أخرجه البخاري (7210).
(7) المُحَيَّا: الوجه.
(8) غطّت.
(9) من أنواعها وأشكالها، وضروب جمع ضرب، والضَّرْبُ: هو والشكل والصنف والنوع .
(10) أنِسَ بها، واعْتَاد عليها.
(11) حديث صحيح، أخرجه البخاري (5992).
(12) انظر: الإصابة (5022)، وأسد الغابة (3233)، الاستيعاب (1697)، الجرح والتعديل (5/193)، تجريد أسماء الصحابة (1/339).