ما إن يقع العبد في معصية ويسلم نفسه لشيطانه وعقله لهواه وفؤاده لشهوته حتى تتسلمه النكبات وتتعقبه الزلات وتصاحبه العثرات، وهو بين هذا وذاك وهذه وتلك، لا حول له ولا قوة لا يستطيع منها فكاكاً ولا يكاد يرفع رأسه من ذنب حتى يقع في كبيرة ولا يكاد يمر منها حتى تجره إلى أختها في سلاسل من الموبقات لا تنفك عنه إلا وهي تسلمه إلى سلاسل جهنم والعياذ بالله.
وهنا لا بد للمسلم أن ينتبه، وأن يتخذ الشيطان عدواً بحق، وليعلم أنه لا يريد منه إلا أن يترافقا في قعر جهنم ثم يرضى بالتنازل في حال المقاومة، وهو مع ذلك ضعيف الكيد قليل الحيلة بائس العزم لا سلطان له إلا لمن سلم له نفسه وأهداه مقوده، وأي صفقة أخسر من هذه!
ومن سياسة النفس أن يتعامل المرء مع الذنوب معاملة الحصيف، فلا ينجر إلى خدع الشيطان التي تبدأ بإيقاعه في الغواية، ثم تعظيم الذنب عنده حد القنوط من الرحمة، ومن ثم يوسوس له أنه هالك لا محالة، فاستمتع بالدنيا على مساوئها، فلا حظ لك في الآخرة، ثم في الأخير يصل به إلى أن يكون داعية للشيطان مغلاقاً لكل خير مفتاحاً لكل شر.
ولست أتعجب من وقوع العبد في الذنب، بل ولا الإصرار عليه، فكل ابن آدم خطاء ولكن العجب الحقيقي هو كيف يستطيع الشيطان أن يقنع مسلماً بالقنوط من الرحمة والفرار من جناب الله والأوبة إليه وطلب المغفرة والرحمة والعودة، وهو الذي أُخبر فيما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟».
وكيف القنوط، ثم كيف وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى: «يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة».
والعبرة هنا ليست في المقارنة بين الخوف والرجاء، ولكن للإحالة فيما بعدهما، فلا تحدث عاصياً مكلوم الفؤاد جالداً للذات عن تخويف الله ووعيده؛ إذ هو موجود بما يلاقيه من غصة القلب الذي فقد حلاوة الوصل وتقلب في عرصات الجفاء، فلا هو أدرك لذة الجاهلين العتاة ولا راحة العارفين البرآء، وكما الشيء نفسه لا تحدث مسرفاً على نفسه فاسد الطريق والطريقة برحمة الله وعفوه إذ هو متنطع طامع فيما لا يعلم فلو أدرك الرحمة لفهم فلسفة العقاب.
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِن عبدٍ مؤمنٍ إلَّا وله ذنبٌ يعتادُه الفَينةَ بعدَ الفَينةِ أو ذنبٌ هو مقيمٌ عليه لا يُفارِقُه حتَّى يُفارِقَ وإنَّ المؤمنَ خُلِقَ مُفْتَنًا توَّابًا نَسَّاءً إذا ذُكِّرَ ذكَر».
وعليه، فإنه لا بد للمسلم أن يحترز لنفسه، وأن يفهم خطط الشيطان وحبائله، فإذا أصاب المسلم ذنباً أن يسارع في التوبة، وألا ينتظر أو يسوف، فهو وإن لم يتدارك المقصود من تتابع الذنوب، فإنه ربما لا يترك له الأجل فرصة لمناجاة حبيبه وطلب العفو والرضا والصفح، فيكون قد خُتم له بسوء وهو لعمري أخسر صفقة.
فإذا لم يستدرك المرء على نفسه وأسرف عليها وأصر على ذنبه فعليه أن يكون فطناً لهذه النفس، وألا يجحد الحكم الشرعي الذي يقضي بحرمة فعله، وألا يسعى للي عنق النصوص والأحكام لشرعنة فساد سلوكه وضلال مذهبه فيتحول بذلك إلى الضلال، وهو الداء العضال الذي يصعب برؤه إذا استحكم واستولى على القلوب والأفهام، وهذا منزلق بعض المتفقهين إذا انزلق لشهوة ولم يصمد أمام نفسه فيعترف لها أولاً قبل أن يسوقها للهلاك.
وعلى المسلم ألا يسلم نفسه لهواه فيقع فريسة لتتابع الذنوب المركبة التي تجر بعضها بعضاً حتى إن لازمه ذنب لم يستطع التخلص منه فعليه ألا يتعداه لغيره، وفي هذا التسلسل يقول ابن القيم: «دَافع الخَطرة؛ فإن لم تفعل، صارت فكرة، فدافع الفكرة؛ فإن لم تفعل صارت شهوة، فحاربها، فإن لم تفعل، صارت عزيمة وهمة، فإن لم تدفعها، صارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضده، صار عادة، فيصعب عليك الانتقال عنها.
فإذا سقط في هذا الفخ عليه أن يعالجه بكثرة الطاعات فيتدافعا، وإن ذا الفطرة السليمة يستحيي أن يعصي الله وهو منصرف إليه أو قريب عهد بالوقوف بين يديه، وفي الصلوات الخمس وتقارب مواقيتها عصمة عن الزلل، وتناسي المراقبة، وتصنع الغفلة حتى تستحكم في القلب، ثم الحرص على أن تكون هذه الطاعات سرية بين العبد وربه، فإن أعمال السر لها عند الله الأجر العظيم، ويكافئ عليها منحاً وعطايا لم تكن حاضرة حتى في ذهن السائل.
وأخيراً، فإن المسلم مهما بلغ من ذنب أو ارتكب من جرم فرحمة الله أوسع، ومغفرته أكبر، وعفوه أشمل، فلا يقنطنك الشيطان ولا تقعدن بك النفس الأمارة، وغالبها واشدد على يقين قلبك وضع عليه جنوداً من الطاعات وحرساً من الصحب، ورفقة الخير، فإنك إن فعلت كنت عن المعصية أبعد، وإلى رضوان الله أقرب وللمعافاة أسرع.