هذه القصة رواها الشيخ علي بن حسن الحلبي عن أحد أبرز علماء الحديث في عصرنا وهو الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، رحمه الله تعالى، وتقول أحداثها:
في الستينيات، أُصيب شيخُنا الألباني بمرض في عينه، هذا المرض عند الأطباء اسمُهُ مرض الذُبَابَة الطائرة، كأنَّ الواحد يرى في عينه أن هناك ذبابة تطير، وفي الحقيقة لا توجد ذبابة تطير، فذهب إلى طبيب وقال له: أنا عندي كذا.. فقال الطبيب: يوجد بعض العلاجات، لكن أهم شيء أن ترتاح.
قال: كيف أرتاح؟ أنا أولاً عندي مهنة الساعات، وأنا مؤلف كتب، وكل الكتب التي أراجع منها مخطوطة وقديمة في المكتبة الظاهرية.
قال: إذا أردت أن تُشفى فلا بد من ذلك، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، رَضِينَا.
فجلس أول يوم، وثاني يوم قال: يعني ما المانع أن أتَسَلَى بكتاب؟
فقال: رأيت كتاباً اسمه «ذمُّ الملاهي» للإمام ابن أبي الدنيا لهُ نُسْخَة في الظاهرية؛ قال: أنا سأعطيه إلى بعض النسَّاخين ينسَخُه، فكلما أتاني بأوراق بدأت أنا أنظر فيها بحيث لا أتعب نفسي.
قال: فعلا بدأت، وأنا لا أتعب نفسي يأتيني كل يوم بورقتين وثلاث وأنا مُرتاح ولا أجهد نفسي ولا عيني.
قال: بعد أيام فإذا به يقول لي: يا شيخ، هناك سقْطْ ورقة -في المخطوطة توجَد ورقة ضائعة- قال: تأكد! فعلًا وَجَدَ وَرَقة ضائعة.
قال: فسأبحث عن الورقة الضائعة، والبحث عن الورقة الضائعة أيضاً لا يُعارِض وَصِيّة الطبيب الذي أوصَاني ألا أُجهد نفسي، هو بحث؛ يعني ليس فيه مشقة.
قال: فبدأتُ أبحث وأبحث، انتهى من كتب الحديث جميعاً وهو يبحث في المخطوطات –نسي الآن أن به مرضاً– وانتهى من كتب التفسير المخطوطة -الكلام عن المخطوطات- وانتهى.
بعد أن انتهى قال: هذا كنز، وأنا أبحث عن الورقة وجدت كنزًا، لَكِنَ جُهدي في هذه الورقة أنساني هذا الكنز، فقرأ المكتبة من جديد مرةً ثانية، لكن ماذا فعل هذه المرة؟ أتى بأوراق كُل حَدِيثٍ يجدُه في هذه المخطوطات يُدَونُهُ في وَرَقة فإذا وَجَدَ حَديثاً آخر يُدَوِّنُهُ في ورقة ثم رتَّبَ هَذِهِ الأوراق على الحروف فإذا بالأوراق جمَعَتَ أربعينَ ألفَ حديث -هذا كله وهو يبحث عن الورقة الضائعة- وبالمناسبة لم يجدها!
لكن سُبْحان الله! إذا شاء الله أمرًا هيأ أسبابه، كنتُ مرة أقرأ في جريدة سُعُودية (جريدة «المدينة») وهذه الجريدة فيها صفحة تُرَاثِيَة، فإذا بأحد المحققين ينتقد طبعة «ذَمّ الملاهي» التي لم يحققها شيخُنا لأن الوَرَقَة ضَائِعَة ونَسِيَ الكتاب وشَفٍيَتْ عَيْنُهُ بَعْدَ ذلك ولله الحمد لكثرة ما كان يدعو: «اللهم عافنا في أسْمَاعِنا وأبْصَارنَا واجْعَلهُما الوَارثَ مِنا» حيث كان شيخُنا شديد اللهَج به.
فلما قرأت الجريدة إذا بمحقق باحث من علماء المدينة ينتقد الطبعة من كتاب «ذم الملاهي»، ويقول: وقفتُ على نسخة تُرْكِيَة كَامِلة -وهو اعتمد نسخة الظاهرية التي فيها ورقة مفقودة- وهذه صُورَة الوَرَقة المَفْقُودَة ووَضَعَهَا فأتِيت بالجريدة لشيخِنا وقُلتُ لَهُ: هذه صُورة الوَرَقة الضائعة التي أنتجَتْ كِتاب مُعجمْ الحَدِيث في أربَعِين مُجَلدًا.
هكذا العلم والبحث عن المعرفة، ونتاج صبر ودأب العلماء في إخراج وإنتاج كنوز للأمة لا تقدر بثمن.