تعد الدراما بمختلف صورها وأشكالها الفنية من مسرح وتلفاز وراديو وسينما من أكثر الأدوات الفاعلة والمؤثرة في سلوكيات البشر وبناء تصوراتهم تجاه الأشياء؛ بما تمتلكه من قدرة فائقة على الإبهار، وتسيطر عليه من أدوات تخترق الكهوف السرية للنفس البشرية، وربما كانت الدراما قديماً تستهدف في المقام الأول ملء الفراغ والتسلية، أما اليوم فهي تقوم بدور قوي في معالجة القضايا والظواهر التي تخص الاجتماع البشري، وتساهم بشكل مباشر في البناء القيمي للأفراد سلباً وإيجاباً.
وأثناء كتابة هذا التقرير، قرأت تصريحاً لأحد الممثلين المصريين يدعى تامر فرج، يقول فيه: «ربوا أولادكم ولا تتركوهم للتلفزيون أو السينما لتربيتهم».
الدراما العربية سعت لتشويه قيمة الزواج وتقديم البديل في قالب تشويقي
الواقع اليوم يشهد على أن الدراما العربية ما زالت بعيدة عن الدور المنوط بها، ذلك أنها ساهمت، لا سيما في العقود الأخيرة وما زالت، في إضعاف بناء المجتمع من الداخل، وقد نجحت الدراما التلفزيونية، خصوصاً التي تعرض في شهر رمضان، في القيام بدور ملحوظ في عملية تشكيل القيم الاجتماعية للجمهور؛ وذلك من خلال تغذيتهم بالمعلومات والاتجاهات التي تمكنهم من الانسجام الاجتماعي داخل مجتمعهم، ومساعدتهم في التعرف على الدور المنوط بهم داخل هذا المجتمع؛ الأمر الذي ينعكس في التقليل من رفض العقل لجملة ما يعرض عليه؛ فالمُشاهد، لا سيما قليل العلم ضعيف الإدراك، يرى في الدراما التلفزيونية بعضاً من ملامح واقعه المزري، فيميل إلى فكرة أنها تعبر عن قيمه وأفكاره، وتساعده في تكوين وجهة نظر تمكنه من المضي قدماً في التعامل مع مشكلاته، يزيد من تأثيرها في نفوس المشاهدين أنها لا تقدم الأفكار والقيم مجردة، بل في قالب فني إبداعي سهل الاستهلاك، سريع الاختراق للعقل والنفس.
يزيد من خطورة الأمر أن الفن كقيمة كان وما زال بعيداً عن صناع الحياة والمهتمين بإصلاح المجتمعات؛ فتوظيفه ضعيف على الرغم من نجاعته كوسيلة مضمونة وسريعة لإبراز الهدف، فضلاً عن أنه يمثل قيمة اقتصادية كبيرة، وببعدهم عن هذا السلاح القوي عبر التاريخ خلت الساحة إلا من الذين وجهوا هذا السلاح البتار لضرب القيم الاجتماعية والقضاء عليها والإساءة إلى الحسن منها، فضلاً عن تغييب الوعي الديني والثقافي والاجتماعي.
ومن أكثر القيم التي تم التعرض لها في الدراما بمختلف أشكالها قيمة «الزواج»، تلك القيمة الوحيدة المشروعة لتكثير الشعوب، ولهذا جاءت متوائمة مع الفطرة السليمة التي خلق الله تعالى الناس عليها، ومتوافقة مع الحاجة الإنسانية في قضاء الوطر، فأول فيلم ناطق في تاريخ السينما المصرية كان عام 1932م من بطولة يوسف وهبي، وأمينة رزق، ومجموعة من رواد التمثيل في مصر، ويحمل عنوان «أولاد الذوات»، وفيه يقوم البطل يوسف وهبي بالزواج من امرأة فرنسية، ومع كرمه معها إلا أنها خانته مع رجل آخر فوجّه لها كلاماً عنيفاً كان من أبرزه: «يا امرأة الكل.. يا مزبلة التاريخ»، ما قرب للمشاهد فكرة الخيانات الزوجية التي تعج بها الأعمال الدرامية، وفتح عيون الشباب وقتها على الزواج من أجنبيات في بُعد تام عن فتيات الوطن.
القيم الاجتماعية السلبية تصدرت القيم المطروحة بالمسلسلات العربية
تشويه الزواج
والملاحظ على مدار العقود الماضية أن الدراما العربية لم تنصف هذه القيمة (الزواج)، بل سعت جاهدة لتشويهها، وتنفير الناس منها، وتقديم البديل في قالب تشويقي محبب للنفس؛ ففي دراسة تحليلية للباحثة المصرية رانيا أحمد محمود مصطفى لنيل درجة الدكتوراة من قسم الإذاعة والتلفزيون بكلية الإعلام جامعة القاهرة عام 2006م التي حملت عنوان «تأثير الدراما العربية والأجنبية المقدمة في القنوات القضائية العربية على قيم واتجاهات الشباب العربي»(1)، وبعد تحليلها لمضمون المسلسلات العربية في فترتي المساء والسهرة خلال مدة زمنية محددة على بعض القنوات العربية؛ توصلت إلى جملة من النتائج، منها أن القيم الاجتماعية الإيجابية وردت بنسبة 34%، في مقابل القيم الاجتماعية السلبية التي جاءت في مقدمة القيم الموجودة بالمسلسلات التلفزيونية بنسبة تقترب من 42%، وأن قيمة العلاقات الجنسية غير الشرعية جاءت في الترتيب الأول بالنسبة للسلبيات الاجتماعية.
وتؤكد العديد من الدراسات الاجتماعية أن غالبية المشكلات الزوجية، وعلى رأسها ارتفاع معدلات الطلاق، ناتجة عن التصورات الخيالية لدى الشباب عن الحياة الزوجية، وتتغذى هذه التصورات على ما يتم مشاهدته من مسلسلات وأفلام وما يتم قراءته من روايات وقصص عاطفية منفصلة عن الواقع، حيث يبدو الطرفان في «الميديا» كما لو أنهما ملكان كل ما في الكون مسخر لخدمتهما، والأخطر أن العلاقة الزوجية في هذه الأعمال الفنية يتم عرضها بصورة لا تمت للواقع بصلة، ويغيب عن العقول فكرة أن كل علاقة تراها في الظاهر ليس شرطاً لأن تكون مثالية أو ربع مثالية خلف الأبواب المؤصدة، فجل الناس يحبون التجمل أمام الآخرين، ومفهوم البعض عن الحياة الزوجية الطيبة قاصر؛ فالمشكلات أمر حتمي، وتصور أن حياة زوجية بدون منغصات أمر وهمي.
ويغيب كذلك عن العقول أن أي علاقة في الدنيا بين شخصين طالت أم قصرت، لا بد وأن تمر بمنعطفات حادة، ومشكلات عويصة، تقل وتكثر تبعاً لطبيعة كل بيت، غير أن هذه المنعطفات وتلك المشكلات تعد أمراً طبيعياً إذا ما أخذت حجمها الحقيقي، وروعي فيها الطريقة السليمة للعلاج.
مسلسل الرذيلة
ولهذا، في عام 2008م خرج مفتي المملكة العربية السعودية سماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ ليصف مسلسل «نور» التركي الذي كانت تبثه قناة «إم بي سي» بأنه عمل إجرامي وخبيث وضار ومؤذ ومفسد، ومن ثم فمشاهدته حرام!
لم يكن مسلسل «نور» التركي هو المسلسل الوحيد الذي يدعو إلى الرذيلة، وينشر أسبابها ويضرب قيمة الزواج في مقتل، فقد سبقه العديد من الأعمال الفنية التي تدعو إلى قيم منحرفة تساهم في تدمير المجتمعات، لكنه المسلسل الذي ساهم في حدوث العديد من حالات الطلاق، ليس في السعودية وحسب، بل في كثير من الدول العربية، حيث ظهر الاستياء واضحاً على بعض الزوجات من طريقة تعامل الأزواج معهن، وطالبن من أزواجهن أن يعاملوهن بنفس الرومانسية التي يعامل بها مهندٌ نوراً، أو حتى معاملة يحيى لمحبوبته في مسلسل «سنوات الضياع» الذي عرض قبل مسلسل «نور» التركي بسنوات قليلة، ومن حالات الطلاق المشهورة وقت عرض المسلسل ما شهده الأردن من إقدام زوج غيور على طلاق زوجته حينما رآها واضعة صورة لمهند على هاتفها؛ ما اعتبر ذلك إهانة له!
تقديم العلاقات غير الشرعية في قالب كوميدي لتمرير الخطيئة
فيلم هنيدي
العجيب أنه حتى الأفلام التي تصنف عائلية وكوميدية وتلقى قبولاً واسعاً من الشعب المصري والعربي لا تخلو من تدمير لقيمة الزواج، فقبل فترة جلست ليلاً أقلب في التلفاز بعد انقطاع عنه دام طويلاً، فوجدت إحدى القنوات تعرض فيلم «صعيدي في الجامعة الأمريكية»، فلم أتحول عنه، لا حباً في الأفلام العربية التي قاطعتها منذ سنوات طويلة، لكن لأنه استحث الذاكرة الضمنية التي هي من أشكال التكييف الكلاسيكي الذي يتم الربط فيه بين أحداث ومشاعر وعمل فني.. المهم أني تابعت الفيلم بعقلية ونفسية غير التي كانت عليه عقليتي ونفسيتي أول مرة!
فيلم «صعيدي في الجامعة الأمريكية» يعد من أهم أفلام السينما المصرية، وهو الذي أصَّل لمصطلح جديد في عالم صناعة الأفلام يعرف اليوم باسم «سينما الشباب»، ولاقى نجاحاً كبيراً، حيث حقق أعلى إيرادات في تاريخ السينما تخطت 27 مليون جنيه مصري، ولا شك أن هذا الرقم كان ضخماً في التسعينيات.
حين كنا نضحك وقت عرض الفيلم أول مرة، لم يخطر في بالنا وقتها أن الفيلم يعج بالقيم المنحرفة، من أبرز هذه القيم: «من الممكن أن تقيم علاقة مع امرأة ولا لوم عليك لأنك شاب فرفوش، بل يجوز لك أن تذهب إلى عوامتها في النيل وتعيش معها وهي على ذمة رجل آخر سافر لكسب العيش ولم يعد»، وستخدمك الموسيقى التصويرية لتقريب وجهة نظرك إلى المشاهد، قام بهذا المشهد بطل الفيلم محمد هنيدي مع الفتاة السودانية.
كذلك إن كنت تحب فتاة وهي تحبك وقوبل هذا الحب برفض الأهل، فبإمكانك أن تخطط أنت وأصدقاؤك لخطف الفتاة ثم تتزوجها بعيداً عن أهلها دون توفر أركان الزواج، جسَّد هذا المشهد كافة أبطال الفيلم مع الممثل الصاعد وقتها طارق لطفي والممثلة الصاعدة أميرة فتحي!
اللافت أني أثناء مشاهدة هذا المشهد الممزوج بفكاهة ليتسرب إلى نفس المشاهد خلسة، تذكرت أنه بعد عرض هذا الفيلم بسنتين ما شهدته مدينة المنصورة من زيادة حالات الزواج العرفي، حتى إنني كنت حاضراً في مكان وجاء شاب ومعه محفظة مفقودة، ولما انبرى أحدهم لفتح المحفظة لعله يجد فيها ما يستدل به على صاحبها، وجدنا 14 ورقة زواج عرفي لطالب جامعي مع زميلات له في الجامعة، وتذكرت حالات الزميلات «الحوامل» بدون زواج معلن!
الدراما الخليجية لم تسلم من فيروسات تشويه الزواج
خيانات زوجية
من الواضح أن الدراما، لا سيما في السنوات الأخيرة، تسابق الزمن في تنفير الشباب من الزواج، حيث ركزت على الزواج غير الشرعي والخيانات الزوجية، فمسلسل «نسل الأغراب» يعرض طفلة ذات 13 عاماً، تتزوج، وتنجب طفلين، ومسلسل «لحم غزال» يعرض طفلة تتزوج ولم تبلغ الثالثة عشرة، وتنجب ويتوفى عنها زوجها، ومسلسل «ضل رجل» يستعرض طفلة تتزوج سراً وتقوم بإجهاض الحمل، وفي مسلسل «نجيب زاهي زركش» يستعرض رجلاً يعيش مع امرأة دون زواج لمدة 30 عاماً، ومسلسل «حرب أهلية» الذي يركز على الزوجة التي تدخل في أكثر من علاقة، وتحمل من غير زوجها، ومسلسل «ضد الكسر» الذي يظهر الطبيب النفسي على أنه «زير» نساء، ومسلسل «النمر» الذي يستعرض الخيانات الزوجية مع التركيز على الصديقة التي تخون صديقتها مع زوجها.
ولا يقتصر الأمر على الدراما المصرية فقط، فالدراما الخليجية لا تبعد كثيراً عما يجري في الدراما المصرية والعربية، فكثيراً ما يحلو لصنّاعها أن يرددوا على مسامعنا أن الأعمال الدرامية التي يقدمونها إنما هي لكشف الواقع وتعريته بهدف توعية المشاهدين، غير أن الواقع بخلاف ذلك، فالقصص المنسوجة حول الخيانات الزوجية وانحراف البنات وحكايات الطالبات وقصص الحب والغرام وانهيار العلاقات الأسرية والإدمان، وتقديم المرأة الخليجية على أنها ضحية ومضطهدة؛ تمثل أكثر من 90% من مادة الدراما، ولا يمكن تصور مجتمع منحرف على هذا النحو!
اللافت أن هذه القصص تمرر للمشاهد بحبكة درامية محاطة بمثيرات جذابة من الأزياء والسيارات الفارهة والقصور الفخمة والمؤثرات الصوتية والضوئية تداعب عواطف المشاهدين، من أبرز هذه الأعمال الخليجية المسلسل البحريني «الخطايا العشر»، الذي يستعرض فكرة الخيانات الزوجية، وكذلك مسلسل «خواتي يا غناتي»، والمسلسل الكويتي «نون النسوة» الذي تطرق إلى القضايا المتعلقة بالحياة الزوجية من خلال قصة 5 نساء يواجهن مشكلات زوجية مختلفة.
الزواج العرفي
بل حتى في الدراما التونسية، ركزت أشهر المسلسلات في تونس على «الزواج العرفي»، حيث أثار مسلسل «براءة» الذي عرض على قناة «الحوار التونسي»، قبل عام، نقاشاً محتدماً بين من يجرم ظاهرة الزواج العرفي، ومن يراها حرية تعبير، واستغلت الحركات النسوية التي تجد دعماً لا محدوداً من السلطة السياسية حالة الجدل وخرجت بعض أصواتها تؤكد حقوق ومكتسبات المرأة التونسية وضرورة حماية حقوق المرأة؛ الأمر الذي جعل وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن تخرج ببيان تؤكد فيه التزام الدولة التونسية بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة، والعمل على دعمها وتطويرها، واتخاذ كافة التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضد المرأة، صحيح لم تنس الوزارة أن تؤكد أن هذا الزواج العرفي يصطدم مع القانون التونسي، إلا أنها أثنت على دور الدراما في معالجة القضايا الاجتماعية على نحو يرسخ لتمييع وتبسيط وتهيئة العقول لقبول مثل هذه الظواهر التي تصطدم بنصوص الشريعة وروح القانون!
بل وحتى في السودان المحافظ والمعتز بعاداته وتقاليده، خرجت المسلسلات الدرامية في رمضان الماضي بمجموعة من القيم السلبية المنحرفة، فقد برز فيها مسألة إدمان المخدرات لدى النساء، والخيانة الزوجية كما في مسلسل «زاندا»، وتشويه متعمد لرجل الدين كما في مسلسل «ود المك» الذي يستعرض تناقضات الشيخ في تعاملاته مع الزوجات، وغير ذلك من الأعمال الدرامية التي فيها اعتداء صريح على الشريعة والعادات والتقاليد مما ينفر الشباب من الزواج، وتثير الشكوك والريبة في النفوس، إلى جانب أنها تفتح الأذهان لحيل شيطانية من خلال تقليد الناس لما يرونه في الأعمال الفنية.
إن أخطر ما فعلته الدراما فيما يتعلق بمعالجة فكرة «الزواج» أنها قلصت القضية في ساعتين هي مدة الفيلم، أو بضع ساعات هي مدة عرض المسلسل، فقد حدث اللقاء واشتعل الحب وتم تأسيس عش الزوجية وتم الانتهاء من ترتيبات العرس وكل ذلك من أجل تسليط الضوء على فكرة «المتعة»، وكأن كل هذا السعي دافعه تلبية شهوات النفس فقط، فأين يتعلم الشباب أن الزواج مسؤولية، وأنه ليس غاية وإنما وسيلة؟!
ولهذا أزعُم أن الدراما أحد أهم أسباب تفشي حالات الطلاق في المجتمعات التلفزيونية؛ لأنها ترسخ لفكرة تقييم الزواج على أساس إلى أي مدى تنجح هذه العلاقة في تحصيل المتعة عدا عن أنها «تخم» المشاهد الذي ما أن ينتهي من المشاهدة يصطدم بمئات العوائق التي تحول بيه وبين تطبيق ما شاهده!
استغلال الدراما
تتعامل السلطات في بعض البلدان بذكاء شديد مع مطالبات الحركات النسوية، والأذرع المعادية للشريعة الإسلامية وقوانينها في الداخل والخارج، فهي –أي السلطة- لا تبادر بتغيير القوانين ذات الصلة بحفظ كيان الأسرة تحديداً، بل كل ما تقوم به المساهمة والسماح للأعمال الدرامية بنشر القيم الهدامة، وجعل المطالبات تأتي من الجمهور أو شريحة منه.
ظهر ذلك جلياً في فيلم «أريد حلاً»، الذي أنتج عام 1975م، وتدور أحداثه حول زوجة تكره العيش مع زوجها الدبلوماسي لأنها واقعة في قصة حب مع صديق أخيها، ومن ثم تطلب من زوجها الطلاق، لكنه يرفض، فتضطر لرفع دعوى طلاق في المحكمة، وأثناء ذلك تتعرض لمجموعة من التحديات والمشكلات التي تهدر كرامتها ومن ثم تخسر قضيتها.
لكن بعد أن تعاطف معها الجمهور تعاطفاً كبيراً، استغلت الحركة النسوية والعلمانية وقتها هذا التعاطف، وقامت بحملة دعائية لمشاهدة الفيلم، فقد أقامت د. زينب السبكي، وكانت أمينة المرأة وقتها، حفلاً كبيراً وطبعت تذاكر وقامت بتوزيعها على السيدات تحت عنوان «أمينة المرأة زينب السبكي تدعوكم لحضور عرض فيلم أريد حلاً»، الأمر الذي جعل السلطة السياسية وقتها تقوم بإصدار قرار بتغيير قانون الأحوال الشخصية (سنة 87)، وأطلقوا عليه اسم قانون «جيهان»، اللافت أن الفيلم يأتي في المرتبة الحادية والعشرين في قائمة أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية!
بعد تعديل القانون، برز فيلم «آسفة أرفض الطلاق»، وقامت ببطولته ميرفت أمين ولم يبعد كثيراً عن فكرة فيلم «أريد حلاً»، فقد كان يعالج فكرة وجوب تقييد حق الزوج في الطلاق.
ألاعيب عيسى!
وقبل عام، استطاع الكاتب المشبوه إبراهيم عيسى أن يمرر تصوراته المشبوهة وأفكاره حول قضية حضانة الأم المطلقة للأبناء إذا ما تزوجت مرة أخرى، ويمررها للجمهور من خلال مسلسل «فاتن أمل حربي»، ولم ينس أن يأتي برجل دين مهتز سطحي مائع ضائع لتغليب كفة القانون المراد على كفة الشرع الحنيف.
وبالأمس القريب نرى مسلسلاً درامياً يحمل اسم «جعفر العمدة»، لإبراز قضية أخرى فيها أيضاً تماس بين القانون والشريعة (قضية الخلع)، لنرى بعدها مطالبات بتغيير قانون الخلع المعمول به، الذي هو في الأصل منسجم مع الشريعة الإسلامية.
واليوم تثار قضية الاعتداد بالطلاق الشفوي، ولا أستبعد أن يكون هناك عمل درامي لتمرير هذه القضية التي تخالف الشريعة الإسلامية، وتساهم في تدمير ما تبقى من أجزاء جدران تستند إليه الأسرة!
«لن أعيش في جلباب أبي» كان نموذجاً للاستثناء في الدراما المصرية
الاستثناء لا يلغي القاعدة
لم يأت عمل درامي واحد، على ما أذكر، يوجه رسالة مباشرة للشباب أن المعيار الأساسي لاختيار الزوجة هو الدين، وطالما توفر الدين فلا اعتبار قوياً لغيره من الأسس، وجل الأعمال الدرامية تقدم صورة نمطية عن الفتاة التي لم تتزوج فهي مثيرة للشفقة دائماً، إما لأنها أقل جمالاً من المتواجدات في محيطها وتعاني من بعض التشوهات الخلقية كشخصية نشوى مصطفى في فيلم «ميدو مشاكل»، وإما أنها رجعية كل ما يشغل بالها إدارة شؤون المنزل، كشخصية علا رشدي في مسلسل «زواج بالإكراه» الذي تم إنتاجه عام 2015م، وإما أن تقبل بأي رجل مهما كانت أخلاقه وصفاته طالما وصلت لسن متقدمة كما في المسلسل الذي عرض العام الماضي تحت عنوان «أحلام سعيدة».
ربما مناسب في هذا السياق أن نشير إلى نموذج للاستثناء في الدراما المصرية، الذي تجلى في مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي»، حيث كان هذا المسلسل المأخوذ عن رواية لإحسان عبدالقدوس، وطرحها للتلفزيون المخرج أحمد توفيق، واحداً من أروع المسلسلات الاجتماعية المصرية التي أنتجت في تاريخ الدراما المصرية، فهو يحكي عن «العصامية» بكثير من الواقعية وعن تفاصيل دقيقة، داخل كل بيت مصري، بدءاً من العلاقة الزوجية، وما يشوبها من تحديات ومعوقات، مروراً بعلاقات العمل وأحقاد الزملاء، وأمراض القلب التي تصيب بعض أفراد المجتمع، وصولاً لغرس مفاهيم وتعزيز مقومات تساعد في سبر أغوار النفس البشرية.
عبدالغفور البرعي
وما أريد أن أسلط الضوء عليه هنا العلاقة الزوجية على ضوء تجربة «فاطمة كشري» و«عبده»، فهي ملهمة بحق!
صدر لنا المسلسل أكثر من 10 علاقات زوجية (سنية وزوجها ابن الوزير، بهيرة وزوجها محفوظ ابن المعلم إبراهيم سردينة، نفيسة وزوجها خضير ابن خالها سيد كشري، نظيرة وزوجها، عبدالوهاب وزوجته روزالين الأمريكية، سيد كشري وفتحية زوجته، رشوان توفيق (الوزير) وزوجته درية.. وغيرهم من العلاقات الزوجية).
يجب تشجيع رجال الأعمال لإنتاج أعمال تبرز القيم الإيجابية
على أن أنجح علاقة كانت لعبدالغفور البرعي مع فاطمة كشري!
المفارقة أن هذا النموذج الناجح هو النموذج الذي لم ينل تعليماً ولم يكن قريباً من العلم والثقافة وصفحات الكتب، في حين أن باقي النماذج حظيت بتعليم عال، وثقافة واسعة؛ وذلك لأن النموذج الناجح عكس لنا بعض المقومات التي إن توفرت في الزوج والزوجة كان الزواج مثالياً.
– بدأت قصة حب بين عامل بسيط بجلباب ممزق بإعجاب، ثم تطورت العلاقة، لم نر تجاوزاً بين المحب ومحبوبته، كانت عيونهما تحكي كل شيء.
– دخل «عبده» البيت من بابه رغم قلة ذات اليد، ووجد من يرحب به لأنه رأى منه التزاماً وحرصاً.
– تزوجا بأقل الإمكانات، وكان لدى الزوجة قدرة عجيبة على إدارة أمور البيت، وكانت تتحلى بذكاء اجتماعي ووجداني كبير.
– لم نر مشهداً واحداً تحاول «فاطمة» أن تتحدى فيه زوجها، أو أن عبده يقرر عمل شيء بدون استشارتها وإقناعها.
– كان يقول لها كلاماً «حلواً»، وهي تقول له كلاماً «حلواً»، ولم يتوقف الكلام «الحلو» على شهر العسل!
– كثيراً ما يتكرر مشهد «عبده» و«فاطمة» وهما جالسان على كرسيين داخل غرفة النوم يتناقشان في أمور البيت في محاولة لإيجاد حلول للتحديات.
– كانت «فاطمة» الأمية تفتخر بزوجها أمام المتعلمين وكبار رجال المجتمع، وتغرس في نفوس أطفالها قيمة ألا يخجلوا من مهنة أبيهم.
– كانت «فاطمة» تثق ثقة كبيرة في كل تحركات «عبده»، وتدرك أنه «شاطر»، وكثيراً ما كانت تقول أمام الأبناء «أبوكو مابيغلطش أبداً»!
– وحين الزعل كانت «فاطمة» تضع الطعام أمام «عبده» وتنتظر حتى يفرغ من أكله ثم تفتح معه الموضوع الذي يشغل بالها!
– في بعض المشاهد كان «عبده» و«فاطمة» يستدعيان مشاهد من الذكريات الأولى لقصة حبهما، وهو أمر في غاية الأهمية، فتذكر المواقف بين الزوجين يشعل نار الحب بينهما، ويعضد ثقتهما بنفسهما، ويعزز مشاعر الطرفين!
– على أن القيمة الأجمل أن الدنيا مهما تزينت، ومهما تجملت فهي في الأخير دنيا، لن تكتمل سعادتك فيها، ولا بد من وجود منغصات، فالرجل امتلك كل مقومات النجاح وتوفرت له كل مقومات السعادة، إلا أن الله اختبره في طلاق بناته، واعوجاج حال ابنه الوحيد!
إزاء المعطيات الحالية لواقع الدراما العربية لا يبدو لي من مخرج إلا تشجيع أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب المواهب الفنية لإنتاج الأعمال الفنية التي تعزز القيم الإيجابية وترفع من منسوب الوعي، بالتوازي مع توعية المشاهدين بمقاطعة الأعمال الهابطة التي تتنافى مع قيمنا الإسلامية وأعرافنا المجتمعية، والتحذير من المساهمة في رفع نسب مشاهدة الأعمال المعادية للقيم مع مقاطعة القنوات التي تتبنى عرض الأعمال الهدامة.
____________________________________________________________
(1) رانيا أحمد محمود مصطفى: تأثير الدراما العربية والأجنبية المقدمة في القنوات الفضائية العربية على قيم واتجاهات الشباب العربي، رسالة دكتوراة غير منشورة، كلية الإعلام، جامعة القاهرة، (2006).
– المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية والمجلس القومي للمرأة.
– الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.