لا شك في أن تزايد معدلات البطالة، وارتفاع المهور، وغلاء الأسعار، وراء عزوف الكثير من الشباب عن الزواج، والسعي إلى تأسيس أسرة مستقرة؛ خشية تحمل التبعات الاقتصادية والاجتماعية التي تترتب على تلك الخطوة، لكن أسباباً أخرى تكمن وراء الكواليس.
ربما يكون من المصارحة القول: إن وسائل التواصل، وتطبيقات الدردشة، ومواقع الفيديو، وما أحدثته من انفتاح على العالم الافتراضي؛ كل ذلك ترك آثاراً سلبية خطيرة تتعلق بنظرة الشباب من الجنسين إلى الزواج.
لعل من أخطر تلك الآثار، أولاً: حجم المواد الإباحية التي غزت مواقع الإنترنت ووسائل التواصل؛ الأمر الذي يحد من إقدام الشباب على إعفاف نفسه، ويدفع به بالولوج إلى عالم آخر لتصريف شهواته الجنسية، والحصول على ما يريد من لذّة في الحرام.
ثانياً: إن هذه المواد الإباحية تغيِّر من نظرة الرجل للمرأة، والشاب للفتاة، فيظن معها أن كل فتاة مستباحة، وأن كل جسد رخيص، فتنعدم ثقته في النساء، ويدعي فقدان الأمل في العثور على فتاة خلوقة ديدنها الحياء، أو ينصرف إلى البحث عن معايير جسدية مثالية تضاهي نجمات السينما، فيدعي أنه لم يجد مراده بعد.
ثالثاً: ما يبث عبر الفضاء الإلكتروني من مقاطع مبالغ فيها عن قدرات جنسية خارقة، يتسبب في إصابة الجنسين بـ«الجاموفوبيا»؛ أي الرهاب من الزواج، والخوف من عدم القدرة على المعاشرة الزوجية، فيظن الشاب أنه مريض جسدياً وأنه غير قادر على إعطاء زوجته حقوقها، وربما تخشى الفتاة من العلاقة الزوجية فتحجم هي الأخرى عن الزواج.
رابعاً: يعد الإسراف في مظاهر حفلات الزفاف، التي تنقلها «الميديا»، وتتباهى بها حسابات المشاهير على وسائل التواصل، مانعاً ضد الزواج، عبر دفع الفتيات إلى الانبهار والتقليد والمحاكاة، والبحث عن زواج أسطوري، وليلة عُمْر بتكاليف باهظة، وشهر عسل في جزر المالديف؛ ما يشعر أي شاب بالفقر والعجز عن تحقيق أحلام عروسه لاحقاً.
خامساً: إفشاء الأسرار وتفاصيل الحياة الزوجية، عبر «فيسبوك» و«تويتر» و«تيك توك» وغيرها من الوسائل الحديثة، يمنح الشباب حجة قوية، ومبرراً محفزاً للبقاء في عالم العزوبية؛ بدعوى تجنب الخلافات والطلاق وخراب البيوت أو كما يقال بالعامية: فقدان «شقا العمر»، و«خسارة الجلد والسقط».
سادساً: ما يجري تداوله على نطاق واسع من جرائم الأزواج، والاسترسال في نشر تفاصيلها، مثل إقدام رجل على قتل زوجته، أو إقدام سيدة على وضع السم لزوجها؛ يثير مخاوف لدى الشباب والفتيات من الوصول إلى هذا المصير، ما يجعل العزوبية خياراً مثالياً مقارنة بما يسمعونه من خلافات أسرية قد تنتهي إلى الطلاق أو القتل.
سابعاً: هذا العالم الإلكتروني يفتح أبواباً أمام الشباب، مثل الهجرة، والحصول على أعلى الشهادات العلمية، والحصول على جنسية أخرى، وربما الثراء السريع عبر «يوتيوب» وغيره، وهو ما يضع الزواج حينها في صورة العائق أو المانع الذي سيحول بينه وبين تحقيق أحلامه.
ثامناً: ما توفره وسائل الاتصال الجديدة من حرية خارج الرقابة، وخصوصية نسبية، ومتعة زائفة في التسلية وتضييع الوقت، يجعل البعض خائفاً من فقدان استقلاليته الشخصية، في ظل المسؤوليات والواجبات التي ستترتب عليه بسبب الزواج، بالإضافة إلى الخوف من الروتين والملل الزواجي.
تاسعاً: تغير نظرة المرأة للزواج، وإثارة الندية بينها وبين الرجل، عبر ما يبث كل لحظة من مواد سامة تستهدف تفكيك الأسرة المسلمة، وضرب ثوابتها؛ الأمر الذي يجعل الفتاة تنظر للزواج وإنجاب الأطفال باعتباره عبئاً وهماً ثقيلاً، سيجردها من هواياتها وصديقاتها، وربما يقضي على أحلامها وطموحاتها في السفر والعمل وإثبات الذات، فتدخل بإرادتها وفي غفلة منها في دوامة العنوسة.
عاشراً: هذا العالم الافتراضي أتاح أمام الشباب من الجنسين أنواعاً لم نعهدها من الزواج؛ مثل «المسيار»، و«المسفار»، و«الفريند» و«العرفي أو السري»، و«السياحي»، و«زواج الإنترنت».. وغيرها من صور الزيجات التي لا تحقق السكن والمودة، ولا توفر بناء مستقراً لزواج ناجح.
هذه خلاصة أضرار وتبعات هذا الفيروس الإلكتروني الذي يواصل مسخ الهوية الإسلامية، وتغيير الأفكار، وتذويب المبادئ، وهدم القيم، فصار الزواج والإعفاف وإنجاب الأطفال «موضة قديمة»، وعائقاً أمام التقدم والإنجاز، أو سبباً للحزن والتعاسة.
هنا لا بد من قرع ناقوس الخطر، والوقوف بقوة أمام محاولات تبغيض الشباب في الزواج، وصناعة وعي حقيقي بأهمية بناء الأسرة، وحقوق الزوجين، ودفع وسائل الإعلام إلى تحسين صورة الزواج.
الأمر جد خطير؛ لأن تأخّر سِن الزواج، وتفشي العنوسة، وتزايد معدلات العزوف عن الزواج؛ يهدد المجتمع بموجات من الانحلال وانتشار الرذيلة والفواحش والعلاقات المحرَّمة، فضلاً عما يخلفه ذلك من انتشار الجريمة والاغتصاب والانتحار، وتزايد الإصابة بالأمراض النفسية، وتنامي السخط المجتمعي؛ وبالتالي عدم استقرار المجتمع، وتعطيل قدرات الشباب الذين هم أمل الغد ودعامة المستقبل.