عبدالفتاح أبو غدة (*)
الذي دعاني إلى إيرادها بيان هذا السيل الضخم من التآليف الكثيرة المدهشة، كيف كتبت؟ ومتى جمعت؟ إنما كان ذلك كله بمراعاة الوقت وكسبه واهتباله، دون أن تضيع منه ساعة أو سويعة، وبالحفاظ على الوقت تزخر الآثار، وتطول الأعمار، ويبارك الله تعالى في الأزمان الوجيزة والأعمار القصيرة، والله يؤتي فضله من يشاء، وهو ذو الفضل العظيم.
من العلماء المراعين للأوقات، الحافظين للحظات، المستفيدين المانحين أطيب الثمرات، الحافظ أبي القاسم بن عساكر الدمشقي، فقد جاء فيها ما يحرك العزائم ويوقظ النائم، فأقول: كان الحافظ أبو القاسم بن عساكر الدمشقي (على بن الحسن) المولود بدمشق سنة 499هـ، والمتوفي بها سنة 571هـ، رحمه الله تعالى، يحافظ على اللحظات من وقته، فجاد على المكتبة الإسلامية بتآليف، تعجز المجامع العلمية اليوم عن طبعها! وقد كتبها وحده، وألفها بيده وقلمه، وحررها وحققها، وجمع أصولها، وانتخب منها، ونسقها ورتبها، وأخرجها للناس آية باقية ناطقة بأنه كان أعجوبة الأعاجيب في سعة الحفظ، ووفرة المعرفة، ونفاذ الهمة في القدرة على التأليف وكثرة المصنفات المدهشة.
وأسوق هنا طرفاً وجيزاً من ترجمته، مقتصراً منها على ما يتعلق بكثرة التطواف، ووفرة المؤلفات، وشدة الحافظ على الأوقات واللحظات.
قال المؤرخ القاضي ابن خلكان في «وفيات الأعيان» في ترجمته: «كان محدث الشام في وقته، ومن أعيان الفقهاء الشافعية، غلب عليه الحديث فاشتهر به، وبالغ في طلبه إلى أن جمع منه ما لا يتفق لغيره، ورحل وطوف وجاب البلاد، ولقي المشايخ، وكان رفيق الحافظ أبي سعد عبد الكريم ابن السمعاني في الرحلة، وقد بلغ تعداد شيوخ السمعاني الذين لقيهم في دار الإسلام سبعة آلاف شيخ.
وكان حافظاً ديناً، جمع بين المتون والأسانيد، سمع ببغداد، ثم رجع إلى دمشق، ثم رحل إلى خراسان، ودخل نيسابور وهراة وأصبهان والجبال، وصنف التصانيف المفيدة، وخرج التخاريج، وكان حسن الكلام على الأحاديث، محظوظاً في الجمع التأليف، صنف «التاريخ لدمشق» في ثمانين مجلداً، أتى فيه بالعجائب، وهو على نسق «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي، من حيث شرطه فيمن ذكرهم فيه، ولكنه أضعافه حجماً واتساعاً وشمولاً وإفادات متنوعة.
قال لي شيخنا الحافظ العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري حافظ مصر، وقد جرى ذكر هذا التاريخ، وأخرج لي منه مجلداً، وطال الحديث في أمره واستعظامه: ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه، وشرع في الجمع من ذلك الوقت، وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع فيه الإنسان مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبه.
ولقد قال الحق، ومن وقف عليه عرف حقيقة هذا القول، ومتى يتسع للإنسان الوقت حتى يضع مثله، وهذا الذي ظهر -أي من التاريخ- هو الذي اختاره، وما صح له هذا إلا بعد مسودات ما كاد ينضبط حصرها، وله غيره تواليف حسنة، وأجزاء ممتعة».
انتهى كلام القاضي ابن خلكان، وقد زادت مؤلفات الحافظ أبي القاسم بن عساكر على خمسين كتاباً، أحدها «تاريخ مدينة دمشق» في ثمانين مجلداً، كما سبق ذكره.
وقال الحافظ الذهبي في «تذكرة الحفاظ»، في ترجمته: «الإمام الحافظ الكبير، محدث الشام، فخر الأئمة، أبو القاسم بن عساكر، صاحب التصانيف و«التاريخ الكبير»، ولد في أول سنة 499هـ، وسمع في سنة 505هـ، باعتناء أبيه وأخيه الإمام ضياء الدين هبة الله، فسمع.. بدمشق، فسمع.. ببغداد، و.. بمكة، و.. بالكوفة، و… نيسابور، و.. بأصبهان، و.. بمرو، و.. بهراة، وعمل «الأربعين البلدانية» أربعين حديثاً من أربعين شيخاً من أربعين بلداً، وعدد شيوخه ألف وثلاثمائة شيخ، ونيف وثمانون امرأة.
وحدث عنه خلق كثير، ومنهم صاحبه في الرحلة أبو أسعد السمعاني -ثم عدد الذهبي تواليفه، فبلغت نحو خمسين كتاباً- وأملي في أبواب العلم أربعمائة مجلس وثمانية وكل إملاء مجلس منها بمثابة تأليف.
قال ولده المحدث بهاء الدين القاسم: كان أبي رحمه الله مواظباً على الجماعة والتلاوة، يختم كل جمعة، ويختم في رمضان كل يوم، ويعتكف في المنارة الشرقية -من جامع دمشق- وكان كثير النوافل والأذكار، ويحيي ليلة النصف من شعبان والعيدين بالصلاة والذكر، وكان يحاسب نفسه على لحظة تذهب! لم يشتغل منذ أربعين سنة أي منذ أذن له شيوخه بالرواية والتحديث إلا بالجمع والتسميع حتى في نزهته وخلواته.
قال الحافظ أبو العلاء الهمذاني: ما كان يسمي أبو القاسم بن عساكر في بغداد إلا شعلة نار، من ذكائه وتوقده وحسن إدراكه. وقال أبو المواهب بن صصرى: قلت له: هل سيدنا رأى مثل نفسه؟ قال: لا تقل هذا، قال الله تعالى: (لا تزكوا أنفسكم)، قلت: فقد قال الله تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث)، فقال: لو قال قائل: إن عيني لم تر مثلي لصدق، ثم قال أبو المواهب: وأنا أو قل: لم أر مثله، ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه، من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر، والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة، وأباها بعد أن عرضت عليه، وأخذ نفسه بالأمر المعروف والنهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم».
وقال الإمام تاج الدين السبكي في «طبقات الشافعية الكبرى» في ترجمته: «الإمام الجليل، حافظ الأمة، أبو القاسم بن عساكر، ولا نعلم أحدا من جدوده يسمى عساكر، وإنما هو اشتهر بذلك، وهو ناصر السنة وخادمها، إمام أهل الحديث في زمانه، وختام الجهابذة الحفاظ، محط رحال الطالبين، جمع نفسه على أشتات العلوم، لا يتخذ غير العلم والعمل، صاحبين له، وهما منتهى أربه، حفظ لا تغيب عنه شاردة، وضبط استوت لديه الطريفة الوتالدة، وإتقان ساوى به من سبقه إن لم يكن فاقه، وسعة علم أثرى بها وترك الناس كلهم بين يديه ذوي فاقة.
سمع خلائق، وعدة شيوخه ألف وثلاث مئة شيخ، ومن النساء بضع وثمانون امرأة، وارتحل إلى العراق، ومكة، والمدينة، وارتحل إلى بلاد العجم، فسمع بأصبهان، ونيسابور، ومرو، وتبريز، وميهنة، ويبهق، وخسروجرد، وبسطام، ودامغان، والري، وزنجان، وهمذان، وأسداباذ، وجي، وهراة، وبون، وبغ، وبوشنج، وسرخس، ونوقان، وسمنان، وأبهر، ومرند، وخوي، وجرباذقان، ومشكان، وروذراور، وحلوان، وأرجيش، وسمع بالأنبار، والرافقة، والرحبة، وماردين، وماكسين، وغيرها من البلاد الكثيرة، والمدن الشاسعة، والأقاليم المتفرقة، لا ينفك نائي الدار، يعمل مطيه في أقاصي القفار، وحيدا لا يصحبه إلا تقى اتخذه أنيسه، وعزم لا يرى غير بلوغ المآرب درجة نفيسة.
هذه لمعات من سيرة هذا الإمام الفذ: الحافظ ابن عساكر الدمشقي، وفيها ما رأيت من العجائب الغرائب، والمدهشات المطربات. ولولا محافظته على الأوقات، واغتنامه الدقائق واللحظات، ما كانت تتأتى له تلك التآليف الضخمة الجامعة الماتعة، التي تعجز المجامع العلمية اليوم عن طبعها فضلا عن تأليف مثلها. فالحفاظ الحفاظ على الأوقات واللحظات، فهي كنز البركات والخيرات.
_________________________________________________
من «كتاب قيمة الزمن عند العلماء»، عبدالفتاح أبو غدة.