علي جريشة (*)
لقد عاشت الأمة الإسلامية أكثر من ألف سنة في مقدمة الأمم، بل لقد عاشت فترة طويلة هي الأمة الأولى في العالم كله، يعمل لها ألف حساب، ويطلب ودها، ويسعى أمثال إمبراطور ألمانيا للتقرب من خليفتها؛ فيرسل له الهدايا.
وحملت في خلال هذه الفترة حضارة الإسلام للدنيا كلها، حملتها بالعلم والخلق قبل أن تحمل السيف في وجه أعداء الإسلام، ولم تكره على عقيدتها أحدًا، فإن القرآن علمها أن (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين) (البقرة 256)، وإنما دخل الناس في دين الله أفواجًا لمًّا رأوا صفاء العقيدة وسموها، ولما شاهدوا جمال الخلق ورفعته، فأحسوا أن هذا الدين ينشئ نشأً جديداً، «يخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والأخرة».
وما عرفه الغرب من تقدمٍ، كان نتيجة احتكاكه بالشرق الإسلاميّ.
إن نقطة البدء في ذلك التقدم كانت حركة الإصلاح الدينيّ؛ حيث ثار الناس على ظلم الكنيسة واضطهادها، وثاروا على كثير من مفاهيمها المعقدة، بعدما رأوا صفاء العقيدة الإسلامية ويسرها، وسماحة الإسلام وسمو خلقه.. ثم كانت بذور النهضة الأوروبية العلمية أخذًا عن علماء المسلمين الذين تعلم الغربيون على أيديهم في جزر البحر الأبيض، وفي الأندلس، ومن قبل ذلك احتكوا بهم إبان الحروب الصليبية.
وإذا بدأ الغرب في نهضته؛ بدأ الشرق الإسلاميّ في كبوته.
وكان لذلك أسباب عديدة، بعضها من أنفسنا، وبعضها خارج عن إرادتنا.
أسباب من أنفسنا
(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30)، تلك سُنة الله في أرضه، وحكمه بين خلقه، لا يخفض قومًا بعد إذ رفعهم إلّا بما كسبت أيديهم، ولا يغيِّرُ بعد ذلك ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
وهو ما حدث بالأمة الإسلامية حين داخلها شيء من الغرور أن الله اختارها ولن يستبدل بها، ونسيت أن الاختيار مؤسس على أسبابه.
(تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران 110)، وتحت هذه الشعب الثلاث يندرج الإسلام كله.
أ- إن أول ما أصاب الأمة الإسلامية بُعْدُهَا عن كتاب ربها وسُنة رسولها، ومحاولة الأخذ من غير هذين النبعين الصافيين الأصليين، خاصة بعد ما أوتي الغرب شيئًا من التفوق الحضاريّ على أساس ماديّ.
ب- وصحب ذلك انهزام داخليّ، أصاب شعور الأمة أو بعضها، فعدلت ما عند الناس بما عند الله، إن لم يداخلها الوسواس أنه أفضل.
جـ- وصحب ذلك التقليدُ والمحاكاةُ، ولم تكن تلك صفة الأمة الإسلامية، بل ليست هذه صفة الأمم الأصيلة.
إنها صفة القردة، أن كانوا حيوانات، أو كانوا ممن غضب الله عليهم ولعنهم، وجعل منهم القردة وعبدة الطاغوت.
د- ولازم ذلك كله الفرقة.
تفككت الدولة الواحدة وأصبحت دويلات، وتصارع الحكام على الدنيا، وأحلوا قومهم دار البوار.
والفرقة دائمًا فرصة العدو للنفاذ، إن الصف المتلاحم المتلاصق لا يستطيع عدوٌّ أن يخترقه، أما الصف المضطرب المختلف الممزق فاختراقه سهل ويسير، والحزمة الواحدة قوية قد تستعصي على الكسر، أما العيدان المتفرقة فكسرها سهل يسير.
هـ- وأعقب ذلك كله تخلف عن مواكبة العصر فيما وصل إليه من أبحاث علمية تجريبية، وما فرض من إغلاق باب الاجتهاد، فينقلوا الغثَّ مع السمين، بل ينقلون الغثَّ أكثر مما ينقلون السمين، وهكذا رأينا ثمار البعثات الخارجية، أخذًا بقشور المدنية الغربية وفسادها، دون أخذ بلبابها.
الأسباب الخارجة عن أنفسنا
هي التي فرضها أعداء الإسلام على المسلمين، وكانت نتيجةً لتخطيط أثيمٍ بدأ منذ الحروب الصليبية، وانتهى إلى الحرب الضارية التي تمارس الآن على العالم الإسلاميّ، ولكن بأسلوب جديد، وهو موضوع هذه الدراسة بإذن الله.
وقبل أن نغادر هذا الباب للحديث عن غزوة المسلمين، نشير إلى أنه رغم الضراوة الشديدة التي يمارسها أعداء الإسلام، فلا يزال الحلُّ بأيدينا.. لا يزال بأيدينا النور.. ولا يزال أمامنا الطريق.. وبعد ذلك، فلقد خص الله هذه الأمة فجعلها قلب العالم كلِّه من كل ناحية.
– من ناحية المكان: هي مركز الدائرة بالنسبة للعالم كله، وهو ما يجعل لها مركزًا إستراتيجيًّا خطيرًا لا يتوفر لأية أمة أخرى.
– من ناحية الثروات: فلقد جمع الله فيها أنواع الثروات الأرضية بما يحقق اكتفاءً ذاتيًّا، وبما يحقق حاجة العالم كله إليها.
وليس الأمر قاصرًا على البترول، وتكفي هذه الإشارة.
– من ناحية الخامة البشرية: فإن الدراسة المنصفة للطبيعة البشرية وخصائصها، تجعل لهذه الأمة من الخصائص البشرية ما ليس لأمة أخرى، وبذلك تتحقق الوسطية لهذه الأمة على اختلاف وجوهها.
وصدق الله العظيم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143).
____________________________________________
(*) من كتاب «أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي»، علي جريشة.