أصدرت بريطانيا «وعد بلفور» عام 1917 والتزمت من خلاله ببذل الجهود لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين؛ وتم الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1920 حيث اعترفت بالوكالة اليهودية، وعملت على تسهيل هجرة اليهود، واتخاذ العبرية لغة رسمية في فلسطين، وحصل اليهود على امتيازات في فلسطين، من بينها: إقامة المستوطنات الزراعية، وتأسيس شركات اقتصادية، وحماية الاقتصاد الصهيوني في فلسطين من المنافسة الأجنبية، وتشجيع الاستثمارات اليهودية في مختلف المجالات، بالإضافة إلى احتكار اليهود لعمليات التصدير والاستيراد.
وفي إطار الجهود الدولية لتسليم فلسطين لليهود، تم إصدار الكتاب الأبيض الأول عام 1922 بشأن الدولة اليهودية المرتقبة وتنظيم الهجرة اليهودية، ثم تلاه الكتاب الأبيض الثاني عام 1930، وتقديم مشروع تقسيم فلسطين عام 1937، وأخيرًا صدر الكتاب الأبيض الثالث عام 1939، وتم في هذا الكتاب الأخير التخلي عن فكرة تقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وفلسطينية، والدعوة إلى تأسيس دولة فلسطينية مستقلة محكومة من قبل العرب الفلسطينيين واليهود.
ولم يصمت الشعب الفلسطيني إزاء هذه المؤامرة الدولية التي ترعاها بريطانيا في فلسطين؛ فقاوم المشروع الصهيوني، وقام بعدة ثورات، من أبرزها: ثورة البراق عام 1929، وثورة عام 1933، وثورة القسام عام 1935، والثورة الكبرى في الفترة 1936 – 1939 التي أرهقت الإنجليز في فلسطين، حيث قام الفلسطينيون بإضرابات عامة وقاطعوا المنتجات الصهيونية والإنجليزية، وقاموا بعمليات مسلحة ضد الصهاينة والإنجليز؛ مما دفع الإنجليز إلي طلب وساطة الحكام العرب لإقناع الفلسطينيين بإنهاء الثورة الشاملة في الأراضي الفلسطينية مقابل العمل على تلبية مطالبهم، ولم يكد الفلسطينيون يوقفون ثورتهم حتى تنصل الإنجليز من وعودهم.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، تبنت أمريكا المشروع الصهيوني حتى إعلان دولة «إسرائيل»، في 15 مايو 1948؛ فحمل الشباب الفلسطيني والعربي على عاتقهم مهمة الدفاع عن أرض فلسطين، وقدموا -وما زالوا- التضحيات، فقد بلغت الأمور عام 1948 درجة كبيرة من الفوضى نتيجة أعمال النسف والتدمير التي تقوم بها العصابات الصهيونية، فكان من الضروري أن يتبنى المجاهدون نفس الأسلوب في التعامل مع اليهود.
ولا نستطيع أن نلم بتاريخ الجهاد المجيد في الدفاع عن التراب الفلسطيني في تلك السطور، فسوف نكتفي بإبراز جهود اثنين من القادة الشباب الذين كان لهم دور رائد في فترة حرب فلسطين؛ الأول: فوزي نامق القطب، رئيس فرقة التدمير العربية الفلسطينية التابعة لجيش الجهاد المقدس الذي ينتمي لعائلة مقدسية عريقة، فقد ولد في مدينة القدس عام 1921م، ودرس المرحلة الابتدائية في المدرسة الرشيدية بالقدس، والثاني: القائد الأردني عبدالله التل، المولود في الأردن عام 1918، وقائد الكتيبة السادسة في الجيش الأردني، وتولى مهمة الدفاع عن القدس في حرب فلسطين عام 1948.
فوزي القطب.. صانع المتفجرات
ذهب فوزي نامق القطب عام 1937 إلى القطمون من أحياء القدس لتنفيذ بعض العمليات العسكرية ضد الصهاينة مع رفاقه ضيف الله مراد، وكامل حتاحت، وأديب الخياط، وعبدالرحمن أبو عوف، وإبراهيم حداقي، وشاركوا في القتال شرقي القدس، وفي بلدة الخضر.
وفي 18 مارس 1948 ألف القطب بالتعاون مع عبدالقادر الحسيني «فرقة التدمير العربية» للعمل ضمن نشاط جيش الجهاد المقدس، ونشأت تلك الفرقة من أجل إلقاء الرعب في قلوب اليهود، ومن ناحية أخرى كقوة ردع لوقف هجمات اليهود على الأحياء العربية، وعهد إليه الحسيني بقيادتها، وأثنى عليه عارف العارف في كتابه «نكبة فلسطين» بأنه من أخلص شباب بيت المقدس.
كان القطب خبيراً بالمتفجرات والألغام واستخدامها، واكتسب خبرته في أثناء وجوده في ألمانيا كلاجئ سياسي خلال الحرب العالمية الثانية حيث تلقى تدريبات مكثفة في هذا الحقل، وكانت كميات كبيرة من «T.N.T» موجودة لدى جيش الجهاد المقدس.
واتسع نطاق عمل تلك الفرقة، وكان لها الفضل الأكبر في أعمال النسف والتدمير للمناطق اليهودية، ومن نشاطها نسف الجسور، وخطوط السكك الحديدية، وبعض طرق المواصلات وتعطيل خطوط الهاتف وأنبوب نفط العراق الواصل إلى حيفا.
وكان لأعمال فرقة التدمير وللألغام التي بثتها فضل كبير في صد الهجوم الذي قام به اليهود على باب الخليل وباب النبي داود في اليومين السادس عشر والسابع عشر من مايو 1948، وفي معركة «باب الساهرة»، وحماية القدس من السقوط في ذلك الوقت، كما كان لهذه الفرقة دور مشهود في سقوط الحي اليهودي في البلدة القديمة.
وقاد القطب عدة عمليات ضد اليهود في القدس، ومن أهمها: معركة «بيت سوريك» الذي يقع شمال غرب القدس، ويشرف على الطريق بين السهل الساحلي والقدس، فقد وصلت الأنباء إلى المجاهدين أن الصهاينة سيرسلون إلى القدس قافلة من السيارات تحمل التموين يوم 19/ 1/ 1948، وأنها ستمر تحت حراسة مشتركة من الصهاينة وقوات الانتداب البريطاني، ويقول صالح مسعود أبو يصير: فيما كانت المعركة دائرة في مكان قريب من مستعمرة الخمس، وكان قوام العرب 55 بينهم القائد عبدالقادر الحسيني، وإبراهيم أبو دية، وعزمي الجاعوني، وفوزي القطب، وكامل عريقات، وراح رجال الصاعقة اليهود المعروفون بـ«البالماخ» يهاجمون قرية بيت سوريك بمشاركة الإنجليز، وأحاطوا القرية والمجاهدين الذين فيها إحاطة السور بالعصم، وذاع الخبر في القرى المجاورة أن عبدالقادر الحسيني وصحبه محاصرون في القرية حتى هب المجاهدون لنجدته من كل حدب وصوب.
وقصارى القول: ما كادت شمس ذلك اليوم تغيب حتى كان النصر معقوداً للعرب فرفع الحصار، وارتد اليهود إلى الوراء تاركين وراءهم 34 قتيلاً، 29 جريحًا، ولم يقتل من العرب سوى رجل واحد.
عبدالله التل.. قائد معركة القدس
أما القائد الأردني عبدالله التل الذي هب لنجدة القدس حين اشتدت اعتداءات اليهود على الأحياء العربية بالقدس مما اضطر إلى فرار 60 ألف عربي من بطش العصابات اليهودية في القدس الجديدة، وفقد العرب الأمن في المدينة، وهرعت الوفود العربية إلى الملك عبدالله الأول، ملك الأردن، التدخل لحماية الأماكن المقدسة والعرب في المدينة، فأصدر الملك عبدالله أوامره إلى عبدالله التل، قائد الكتيبة السادسة في الجيش الأردني، ليتحرك لنجدة القدس، وبالفعل بدأ التل بالزحف على المدينة يوم 17/ 5/ 1948، وقام بمحاصرة اليهود في القدس القديمة، وشهدت أبواب المدينة معارك عنيفة لفك الحصار، لكنها ذهبت هباء.
واستطاع أن يشدد الحصار على المدينة حتى انعدمت الأقوات والمياه، وانعدم الأمن وأصبحت حالة اليهود بالمدينة يرثى لها حتى استسلموا في القدس القديمة للقائد التل يوم 28/ 5/ 1948؛ وإنقاذاً لليهود المحاصرين في القدس تقدم المندوب البريطاني لمجلس الأمن في آخر مايو 1948 باقتراح يقضي بوقف القتال لمدة 4 أسابيع، وتعيين وسيط دولي للتوفيق بين العرب واليهود، واستخدمت بريطانيا نفوذها للتأثير في تمرير القرار بمجلس الأمن، فتمت الموافقة على الاقتراح البريطاني في 29 مايو 1948، بوقف القتال في فلسطين لمدة أربع أسابيع، وتعيين الكونت برنا دوت وسيطاً منتدباً من قبل هيئة الأمم المتحدة مهمته التوفيق بين العرب واليهود.
وعقب الهدنة تم تعيين التل حاكمًا عسكرياً للقدس بدرجة أمير آلاي (زعيم) تقديراً لجهوده، وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره.
_____________________________________________________
1ـ عارف العارف: نكبة فلسطين أو الفردوس المفقود، المكتبة العصرية، بيروت، 1956، ج1، ص134.
2- صالح مسعود أبو يصير: جهاد الشعب الفلسطيني في نصف قرن، دار البيارق، ط3، 1988.
3ـ محمد عزة دروزة: حول الحركة العربية الحديثة، المكتبة العصرية، صيدا، 1950.
4- محمد عمر حمادة: موسوعة أعلام فلسطين في القرن العشرين، دمشق، 2000.