- سمعت أحد الشيوخ المشهورين يتحدث في مجتمع المجامع الحافلة، في إحدى المناسبات الإسلامية، فكان مما ذكره: أن يلقى المسلم الله مقصراً في نصيحة أو تحت ذنب، أهون من أن يلقى الله داعياً إلى فتنة، فإن الفتنة مجلبة الخراب، تفرقة على المسلمين.
وكان الشيخ يعرض في حديثه هذا بعض الفئات الإسلامية، التي تدعو لإقامة دين الله في الأرض، والعودة به إلى قيادة الحياة والمجتمع، وقد انقسم الناس في شأن هذه الفئة، وقاومها بعض الحكام، فهل لك أن تحدثني عن الفتنة، فقد فهمت من هذا الكلام أن كل دعوة تسبب اختلاف الناس عليها، وخصومة بعضهم لها، ولا تجتمع عليها الكلمة، وتتحد الصفوف، إنما هي فتنة يستعاذ الناس منها؟!
– لو كانت الفتنة كما فهمت وخطر في بالك بأن رسل الله عليهم الصلاة والسلام أول الفتنة ومؤججو نيرانها! فقد كانوا يواجهون مجتمعات راكدة، متحدة على الباطل، مختلفة على الضلالة، متعاونة على الإثم، شب على تدريسها الصغير، وهرم عليها الكبير، وورثها الخلف عن السلف، والأبناء عن الآباء، حتى يبعث فيهم رسول من عند الله، فإذا هو يسفه أحلامهم، ويعيب آلهتهم، وإذا في القوم من يؤمن بالدعوة الجديدة، ويفديها بروحه ومهجته، ويحميها بنفسه، وما ملكت يداه، وإذا آخرون يصرون على عقائدهم الموروثة، وآلهتهم المزعومة، لا يبغون عنها حولاً، ولا يرضون بها بدلاً، وإذا الفريقان يختصمون، بل يتقاتلون.
إن أصحاب الفتنة هم الذين يعذبون المؤمنين والمؤمنات، ويضطهدون الدعاة إلى الله، لا إلى الطاغوت، والدعاة إلى الإسلام لا إلى الجاهلية، وإلى النجاة لا إلى النار، أصحاب الفتنة هم موردو العقائد الدخيلة، والمبادئ الهدامة لديار الإسلام، وهم صانعو الفتن الظالمة المظلمة التي تنبأ بها وحذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا”.
أليس أولى ما تنطبق عليه الفتنة المذكورة في الحديث “الماركسية” المضللة الكافرة التي تزعم أن الدين أفيون الشعوب، وأن المادة كل شيء في الوجود؟ ودعاة “العلمانية” التي توجب عزل الدين عن الحياة والمجتمع؟ أليس دعاة هذه الماركسية والعلمانية هم دعاة الفتنة الواقفين على أبواب جهنم يجرون الناس إليها جراً، كما ورد ذلك في حديث حذيفة رضي الله عنه؟
أخيراً أقول: دعاة الفتنة ذلك هم علماء السوء، علماء الدنيا الذين رضوا بأن يمشوا في ركاب الظلمة، وأن يحرقوا البخور بين أيدي الطغاة، ويحرفوا الكلام عن مواضعه، ويطوعوا القرآن لأهواء الحكام، ونسو قول الله العظيم: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) (هود: 113).
رحم الله الحسن البصري الذي قال: من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يعصي الله في أرضه، وكل من لم يحكم بما أنزل الله فهو ظالم.
وقد جاء الحديث في وصف هؤلاء العلماء -علماء السلطان– بأنهم “يختلون الدنيا بالدين ويلبسون جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوب الذئاب”.
فإن قلت: وما علاج هذه الفتن، ما ظهر منها وما بطن؟ قلت: سأل هذا السؤال قديماً سيدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد روى الترمذي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “سيكون بعدي فتن كقطع الليل المظلم”، قال عليّ: قلت: وما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: “كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأنقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجباً، من علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم”.
العدد (1603)، ص59 – 10 ربيع الآخرة 1425ه – 29 مايو 2004م