استوقفت أخاً لي يوماً لم أعد أراه في المسجد بعد أن كان لا يمرر صلاة، ولا يمكث يوماً إلا وأراه مسرعاً محافظاً، فسألته عن سبب تأخره وتراجعه، فإذا به يذكر سيلاً من التعليلات في حدوث ذلك.
واستوقفت آخر كنت أراه مسارعاً إلى أبواب الخيرات سباقاً في الطاعات وفي خدمة الناس قد رحل إلى الظل واستظل، فلما حاورته إذ به يحمل نفس المنهج، ويبرر مفصلاً مضمون الترك.
وثالثاً قد كان هادئاً ليناً فأصبح عصبياً مقرعاً.
ورابعاً قد كان متعلماً جامعاً فأضحى لاهياً ولاعباً.
وآخرين أصبحوا بعد ما كانوا، واللغة الوحيدة المشتركة في جميع حواراتهم هي انتفاش لغة التعللات في حديثهم واستسلامهم لهذا.
ثم استوقفت نفسي فوجدتني كذلك في بعض ما كنت عليه من جميل التكوين وروعة التنفيذ وحسن الأداء، فإذا بي أخبر نفسي متعللاً لما وصلت إليه وتغير في نفسي؟!
ما هذه اللغة التي تقعد وتعجز وتفتر وتركن؟! هل هذا أمر طبيعي في السائرين إليه سبحانه، الطامعين في رضاه وجنانه؟! هل هذه التعللات كانت موجودة في زمن رسوله ومقبولة بهذه الصورة وهذا الكم؟! هل هذا أمر لا مفر منه فلا ندفعه، أم أمر بات فاشياً في أدائنا وتثبيط هممنا يجب التنبه إليه والتخلص منه لاستمرار وجودنا وحسن مسيرنا؟!
إنني أدرك وجود هذه الأشياء في واقعنا وحياتنا، فأنا هنا لا أنفيها عن قائلها، ولا أدعي زوراً عدم وجودها؛ لأنها بالفعل موجودة، إنما أحاول من خلال هذا المقال أن أضيق مساحتها، وأؤكد استطاعتنا في استكمال طريقنا والوصول إلى غايتنا مع وجودها.
أنا هنا أذكر معظمها، وأضرب بالمثال الحي الواقعي على من تجاوزها، وأختم بطرق العلاج في تجاوزها، على النحو التالي:
1- المتعللون بالغربة عن الأهل والوطن:
فبعض من يحدثك عن سبب تراجعه وتأخره يتعلل لك بغربته ووحدته عن أهله وأقاربه ووطنه، وأنا أعرف الغربة وقسوتها وشدتها، وأدرك تماماً فجوتها، لكن لا أبرر التعليل الكبير بها في تأخر العامل عن عمله الساعي إلى مرضاة ربه.
إن الاغتراب قد يكون ابتلاء كغيره يمتحن من خلاله المرء في تحمله وصبره، لكنه لا يكون أبداً سبباً في تراجعه عن ربه وجميل عمله، قد اغترب النبي صلى الله عليه وسلم، واغترب الصحابة وغيرهم فرادى وجماعات، وبعضهم تعددت غربته إلى أكثر من جهة ومكان، فهل قلَّ أحدهم يوماً عن ورده أو عمله أو ضعفت صلته بربه أو استبعدت الجنة من غايته؟! كلا، بل منهم من ضرب المثل الرائع السريع في استكمال مسيره وتجاوز غربته، بل وتفوق وتزايد عمله، فقد روى البخاري: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ المَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَقَالَ: عَبْدُالرَّحْمَنِ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ، فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، بَعْدَ أَيَّامٍ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ: «فَمَا سُقْتَ فِيهَا؟» فَقَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»، أين تعللك يا عبدالرحمن بالغربة عن استكمال حياتك وضياع ثروتك وفقدان أهلك، هل لك نفس أن تتاجر وتتعبد وتتزوج وتحضر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وتتعلم العلم وتمضي في طريق فوزك بجنتك وتعمير أرضك، فلمَ التعلل الشديد إذاً بترك الركب وجميل التمسك بدخولك في الاغتراب؟!
2- المتعللون بالأسرة ومشكلاتها:
على صعيد آخر، تجد من يباغتك عند تفقدك له بتعلل الأسرة ومشكلاتها، وكما قلت أنا لا أهون من أمرها ولا أقلل من مشكلاتها، لكني ما زلت منازعاً عن اتساع مساحتها في حياتنا ومدافعاً عن فكرة البقاء مستمراً في مسيرك في وجودها، قد مرت نماذج أكثر منا مسؤولية في أسرهم وعدداً في رقابهم وكثرة في مشكلاتهم، فما رأينا تعللهم هذا يمضيهم عن غاية أو يقعدهم عن تقدم، أو يثنيهم عن نجاح وتحصيل، هل أنت أكثر أسرة ومشكلات، أم الذين مروا قديماً وحديثاً وقد نقل لنا شيئاً من حياتهم؟ فمراجعة صغيرة لبيوت القدوات من الأنبياء المبتلين بأسرهم كنوح، ولوط، وإبراهيم.. وغيرهم، وكذا الصحابة والتابعين، بل ورسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب البيوت التسعة؛ تدرك تماماً فحوى ما نتكلم عنه، وتعي سراب ما تتشبث به متعللاً، ولك نموذج واحد؛ فعند البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: هَلَكَ أَبِي وَتَرَكَ سَبْعَ بَنَاتٍ أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً ثَيِّبًا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ» فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: «بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟» قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا، قَالَ: «فَهَلَّا جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ، وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ» قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ هَلَكَ، وَتَرَكَ بَنَاتٍ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ وَتُصْلِحُهُنَّ، فَقَالَ: «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ» أَوْ قَالَ: «خَيْرًا»
فجابر قافل من الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتعلل في عدم الحضور والسفر والجهاد وتحصيل الأجر وتحقيق الغايات بما يعتبر عند كثير اليوم عذراً مقبولاً وتفهماً معقولاً في تخلفه، أتراك تُخلف زوجة وتسع أخوات وتذهب للجهاد؟! فكيف إذا دعيت لحضور الجماعات والطاعات وأنت في بيتك وبجوار مسجدك؟! بل بماذا تجيب عندما ترى قول جابر في العلم مزيناً في فروع الفقه حتى صار من علماء الأمة والصحابة حاملاً للقرآن مكثراً في رواية الحديث، فهو من السبعة المكثرين المشهورين، مجيباً للفتوى، معلماً للعلم، وقد زادت أسرته وتعاظمت مسؤولياته.
3- المتعللون بطلب الرزق والكسب:
نعم، طلب الله تعالى منا سعياً ومشياً في الأرض؛ طلباً للأرزاق ورفعاً للأيدي واستخلافاً في الأرض، وحثنا النبي صلى الله عليه وسلم على الأكل من عمل اليد، فمدح كل ساعٍ على رزقه، وشدد في تضييق المسألة على أصناف محددة في وقت محدد، كما عند ابن خزيمة عن قبيصة بن مخارق: «لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَصَابَتْ مَالَهُ حَالِقَةٌ، فَيَسْأَلُ حَتَّى يُصِيبَ سَوَادًا مِنْ مَعِيشَةٍ، ثُمَّ يُمْسِكُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ. وَرَجُلٌ حَمَلَ بَيْنَ قَوْمِهِ حَمَالَةً، فَيَسْأَلُ حَتَّى يُؤَدِّيَ حَمَالَتَهُ، ثُمَّ يُمْسِكُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ. وَرَجُلٌ يُقْسِمُ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ بِاللَّهِ لَقَدْ حَلَّتْ لِفُلَانٍ الْمَسْأَلَةُ، فَمَا كَانَ سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ سُحْتٌ لَا يَأْكُلُ إِلَّا سُحْتًا»، ومع هذا، فمن الناس من يفهم أن طلب الرزق والكسب مقعد عن الطاعة والحضور والعلم وغير ذلك من وجوه الخير.
إن القضية تكمن في داخلك أنت، فما تعتذر به وتتعلل به نابع من رضائك بحالك، مقتنعاً بعقلك، وكأني بإجابة النبي صلى الله عليه وسلم لرجل زائره بادره بالشفاء فبادره بالتشكي فقرره على ما قال، كما عند البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ، قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ: «لاَ بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فَقَالَ لَهُ: «لاَ بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» قَالَ: قُلْتُ: طَهُورٌ؟ كَلَّا، بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ، أَوْ تَثُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ القُبُورَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنَعَمْ إِذًا».
نعم إذاً، إذا كنت مقتنعاً بذلك فهل لك فيمن كان لا يمسك كسب يومه ولا يعرف كسب غده كيف به لم يتزرع بما تتزع به، ولم يكف عن معاشه، لكن إذا ما عاد إلى بيته تملكه محرابه وخاطبته محبرته وناده قلمه ليخط علماً أو يصف قدماً أو يقرأ ورداً وهو في كل هذا منهوك الجسد، لكنه عظيم الهمة، مدرك لعظيم الغاية، مستوفي الحقوق؛ فلا تطفيف ولا تنقيص، ماذا تفعل أخي مع هذا الأعرابي الذي ترك صلاة معاذ فصلى منفرداً، وقد بين لرسول الله سبب ذلك، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعَاذٍ فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ اقْرَأْ بِكَذَا وَاقْرَأْ بِكَذَا»، قَالَ سُفْيَانُ: فَقُلْتُ لِعَمْرٍو، إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ، حَدَّثَنَا عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى.
إن الرجل لم يمنعه طلب رزقه من انتظار إمامه والصلاة في مسجده وحضور الجماعات، والاعتذار فقط في الحديث إنما هو عن الإطالة، والتقريع هنا لهذا الإمام الذي ينفر لا المأموم الذي يعمل، ليبقى المرء موفقاً معاناً بين طلب رزقه ومرضاة ربه؛ فتدبر.
4- المتعللون الأُخر:
– فمنهم المتعلل بالموقف السيئ فيعممه ويتأخر عن الطاعة لغلو تحكيمه واتهام مجتمعه.
– ومنهم المتعلل بالطبع الذي يرى استحالة تغييره وسيطرته عليه فليس معه إلا التسليم له.
– ومنهم المتعلل بالضعف الجسدي والنفسي الذي يصل به إلى قناعة الكفاية من العمل وبعد التقوي بعده.
– ومنهم المتعلل بتأخر السن وجريان العمر ودون الأجل عن استدراك ما فات أو تحصيل جديد.
– ومنهم المتعلل بإتاحة الفرص للآخرين وإفساح المجال للشباب، وكأنه ضامن الجنة أو مستغنٍ عن درجاتها.
– ومنهم المتعلل بالحسد والعين فيقعد ولا يتداوى وينتظر ارتفاع العين وذهاب الحسد، ويعلل كل تخبيط وخسران وتأخر عليهما والتسليم لما حل به لو كان صحيحاً.
– ومنهم المتعلل بالقدر وجريان أمر الله عليه، وكأنه لا يعرف مدافعة القدر بطلب الاستعانة والتضرع والدعاء لربه.
وغير ذلك كثير، ولولا طول المقال لسردت لكم نماذج من هؤلاء جميعاً، لكنها أمثال حية وأقوال شائعة.
وأخيراً أقول: إن التعللات كثيرة لا تحصر، والعلاج الأول عندي يكمن في نقاط مهمة، منها:
– إدراك الدنيا وحقيقتها وعدم الركون إليها.
– الانشغال بالآخرة وأعمالها كالانشغال بالدنيا وطلبها.
– تقسيم الأوقات على الأعمال شريطة عدم دخول وقت عمل على آخر والقوة في تنفيذ ذلك.
– مصاحبة أهل الطاعة والرفعة والآخرة والسير معهم والبقاء في دائرتهم.
– ترك التسويف المنهك المحبط.
– الآخذ بالقوة في جميع الأعمال ومعايشتها حتى تصبح كيانك الذي يخالط لحمك ودمك.
– الانشغال بحسن الخاتمة.