في أول فتوى جامعة له منذ تأسيسه..
بيان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين حول: حكم الاختطاف واتخاذ الرهائن
ليست ظاهرة الخطف من خصوصيات هذا العصر، بل عرفها الإنسان في مراحل تاريخية سابقة، لكنها أصبحت اليوم كثيرة بشكل لافت، وذلك بسبب الظلم الكبير اللاحق بالشعوب المستضعفة من قبل الدول الكبرى المتسلطة، ولعدم امتلاكها السلام المكافئ لرد العدوان عنها، ولما كان بعض المسلمين يلجؤون إلى هذه الأساليب ويتوسعون فيها، خارجين بذلك على الحدود الشرعية، فقد أردنا بهذه الفتوى بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بذلك، ونلخصها فيما يلي:
أولاً: الخطف هو اعتداء على الغير سواء كان مسلماً أم غير مسلم، وهو نوع من أنواع البغي الذي نهى الله عنه وحرمه بقوله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90)، ومن المعلوم أن الأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ليس محصوراً في المسلمين، فيكون النهي عن البغي أيضاً عاماً لجميع الخلق، وإذ كانت فطرة الإنسان تدعوه إلى رد العدوان حين يقع عليه، إلا أن الله تعالى أباح رد الاعتداء بمثله فقط: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 194)، (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190)، وأكد الله تعالى أن مجرد الاختلاف الديني حتى لو دخل مرحلة الصراع لا يسوغ الاعتداء على الآخرين، قال تعالى: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ) (المائدة: 15).
ثانياً: الخطف يعتبر من الأعمال الحربية، فهو إذا جاز استثناؤه أثناء قيام حرب فعلية، فإنه لا يجوز إطلاقاً خارج نطاق الحرب.
1- روى الطبري في تفسيره (26/59) عن مجاد قال: أقبل معتمراً نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ أصحابه ناساً من أهل الحرم غافلين، فأرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه خرج معتمراً فلم يعتبر نفسه في حالة حرب مع المشركين.
2- كما لم يقر الرسول اختطاف سلمة بن الأكوع لأربعة من المشركين بعد صلح الحديبية، ظناً منه أن المشركين نقضوا الصلح، وقال صلى الله عليه وسلم: “دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه” (صحيح مسلم).
فالابتداء بالفجور من أخلاق المشركين وليس من أخلاق المسلمين، وإذ أبيح للمسلم الرد على الفجور بمثله، فليس ذلك لمجرد الرغبة في الانتقام، وإنما هي محاولة لمنع تكرار الفجور، ولإزالته من ميدان العلاقات الإنسانية، وقد أرشدنا القرآن إلى وسيلة أمثل لمنع تكرار الفجور، وبين لنا أن العفو والصفح هو الذي يدرأ السيئة أي يمنع تكرارها: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت: 34)، (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) (المؤمنون: 96)، ووصف المسلمين بأنهم: (وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) (الرعد: 22).
بناء على ذلك نقول: إنه لا يجوز خطف أي إنسان في غير حالة الحرب الفعلية، وهو عندئذ يكون أسير حرب لا يجوز قتله، بل مصيره إلى إطلاق سراحه قطعاً؛ (فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء) (محمد: 4)، ومن باب أولى لا يجوز خطف أشخاص إذا كانوا معارضين لمحاربتنا ومتعاطفين معنا “كالصحفيين الفرنسيين”، ونستنكر جميع حوادث الاختطاف التي تطال أناساً لا علاقة لهم بالمحتلين، ونطالب بإطلاق سراحهم فوراً.
ثالثاً: في حالة قيام حرب فعلية، لا يجوز اختطاف الأبرياء أو المدنيين من الأعداء الذين لا يجوز توجيه الأعمال الحربية ضدهم.
والمدنيون في نظر الإسلام هم: غير المقاتلين من النساء والأطفال والشيوخ العاجزين الذين لا رأي لهم في القتال، وكذلك الرهبان، وقد “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان” (متفق عليه)، وقال: “لا تقتلوا وليداً” (رواه أبو داود)، وأمر خالد بن الوليد فقال له: “لا تقتلن ذرية ولا عسيفاً” (صحيح سنن ابن ماجه)، والعسيف هو الأجير، وهو يشمل كل من يستأجر لأداء خدمات لا تتصل بالقتال كالعمال في المصانع والأطباء والعاملين في المستشفيات وأمثالهم، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الشيخ الفاني (سنن أبي داود)، وعن قتل الرهبان وأصحاب الصوامع الذين يحبسون أنفسهم لله (المدونة لمالك، وجامع الأصول، ومصنف ابن أبي شيبة)، وثبت منع قتل الرهبان عن أبي بكر، وذكر جابر بن عبدالله في مصنف ابن أبي شيبة أنهم “كانوا لا يقتلون تجار المشركين”، وقد قاس جمهور الفقهاء من الأحناف والمالكية والحنابلة على هذه النصوص أنواعاً أخرى من غير المقاتلين كالمقعد والأعمى والمعتوه وقوم في دار أو كنيسة ترهبوا وطبق عليهم الباب (بدائع الصنائع للكاساني، المغني لابن قدامة) والأجراء والحراثين وأرباب الصنائع (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)، ووضع الإمام الشوكاني ضابطاً واضحاً للقياس على النصوص في هذه المسألة؛ وهو عدم جواز قتل من لا يرجى نفعه للعدو، ولا ضرره على المسلمين. (نيل الأوطار للشوكاني).
بناء على ذلك نعلن: استنكارنا لاحتجاز الأطفال في مدرسة بيسلان في أوسيتيا الشمالية، وتعريضهم لتلك المجزرة البشعة رغم اعتقادنا بعدالة القضية الشيشانية وحق الشعب الشيشاني في تقرير مصيره، كما نعلن استنكارنا لاختطاف امرأتين إيطاليتين تعملان لحساب منظمة إنسانية رغم إدانتنا لموقف الحكومة الإيطالية المتحالف مع القوات الأمريكية المعتدية، فكل ذلك وأمثاله لا يجوز أصلاً من الناحية الشرعية، فضلاً عن أنه ليس من مصلحة المقاومة، ويجب أن نتذكر أن خيانة يهود بني قريظة يوم الأحزاب لعهدهم، مع المسلمين، على الرغم من كل ما فيها من فظاعة، لم تدفع المسلمين إلى قتل الأطفال أو النساء أو تعريضهم لأي أذى.
رابعاً: إذا تم الخطف، في أثناء القتال الفعلي، فقد أصبح المخطوفون أسرى، ويجب أن يعامَلوا ضمن حدود الأحكام الشرعية المتعلقة بالأسرى، ونحن نلخصها فيما يلي:
أ- يجب تسليم الأسير إلى ولي الأمر ليقضي فيه ما يرى، وليس لآسره يد عليه، وليس له حق في التصرف فيه.
ب- من الواجبات الشرعية الرفق بالأسرى، والإحسان إليهم، وإكرامهم، وتوفير الطعام والكساء لهم، وعدم تعذيبهم، قال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (الإنسان: 8)، وقال صلى الله عليه وسلم: “استوصوا بالأسارى خيراً” (رواه الطبراني، وإسناده حسن)، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “أحسنوا إلى أسراكم وقيّلوهم وأسقوهم” (إمتاع الأسماع للمقريزي)، وقوله: “لا تجمعوا عليهم حر هذا اليوم وحر السلام” (فتح الباري)، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم “بدر” أن يكرموا الأسارى: “فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء” (تفسير ابن كثير).
جـ- مصير الأسرى في الإسلام إطلاق سراحهم، إما مناً عليهم دون مقابل، أو بمقابل فدية يقدمونها للمسلمين، والفدية قد تكون مالاً، وقد تكون مبادلة مع أسرى المسلمين، وقد تكون خدمة يقدمونها للمسلمين، كما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض أسرى “بدر” تعليم جماعة من المسلمين الكتابة مقابل إطلاق سراحهم (زاد المعاد لابن قيم الجوزية)، لقوله تعالى: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) (محمد: 24)، وقد عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية إلى أن قبضه الله إليه.
وكثير من العلماء يقولون بعدم جواز قتل الأسير أصلاً، قال ابن رشد في “بداية المجتهد”: “وقال قوم: لا يجوز قتل الأسير، وحكى الحسن بن محمد التميمي أنه إجماع الصحابة”، وقال ابن كثير في تفسيره: “وقال بعضهم: إنما الإمام مخيَّر بين المن على الأسير أو مفاداته فقط، ولا يجوز قتله”، وقال الألوسي: “وظاهر الآية: امتناع القتل بعد الأسر.. وبه قال الحسن”.
بناء على ذلك نقول:
إن الأسير لا يُقتل إلا استثناء، وبقرار من ولي الأمر بناء على حكم قضائي، وإن مجموعات المجاهدين العاملة في نطاق المقاومة ضد الاحتلال في العراق أو في غيره، لا تتمتع بصلاحيات ولي الأمر، فضلاً عما يترتب على قتل الأسرى من ضرر كبير يلحق بالمقاومة نفسها، ويشوه قضية الشعب العراقي المجاهد، ولذلك فإننا نعلن استنكارنا لقتل النيباليين وغيرهم من الرهائن الذين لم يقوموا بأعمال قتالية أصلاً، ولو صح أنهم قدموا خدمات للقوات المحتلة فهي لا تبرر قتلهم شرعاً.
خامساً: لا يجوز احتجاز المدنيين من الأعداء كرهائن وتهديدهم بالقتل، بسبب عمل يرتكبه أو يمتنع عنه غيرهم، وليسوا مسؤولين عنه، ولا يمكنهم منعه، كما حدث عند احتجاز الأطفال والمدرسين في مدرسة بيسلان في أوسيتيا الشمالية، وذلك لسببين اثنين:
الأول: أن من أهم قواعد العمل بين الناس لا يسأل أحد عن عمل غيره، وألا يحاسب على جريمة اقترفها غيره، هذه القاعدة الشرعية أكدها القرآن الكريم في كثير من آياته، قال تعالى: (وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا) (الأنعام: 164)، (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الإسراء: 15)، (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا) (فصلت: 46)، (مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (النساء: 123).
وقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القاعدة في كثير من أحاديثه، منها قوله: “لا يجني جان إلا على نفسه” (رواه ابن ماجه)، وقوله: “لا تجني نفس على أخرى” (رواه النسائي وابن ماجه)، وقد صرحت بعض الأحاديث بمنع قتل المعاهدين من غير المسلمين، كقوله صلى الله عليه وسلم: “من قتل نفساً معاهدة بغير حلها حرم الله عليه الجنة أن يشم ريحها” (رواه النسائي).
الثاني: أنه حتى في حالة الحرب الفعلية، قد يتعرض المدنيون للقتل بسبب الأعمال الحربية، كما لو وقعت غارة على معسكر العدو فأصابت من هو قريب منه، وقد أجاز الفقهاء ذلك حين يقع من غير قصد، أما تقصد قتل المدنيين الذين منع الإسلام قتلهم فهذا لا يجوز، فإذا كان تقصد المدنيين من الأعداء بالقتل غير جائز في أثناء المعركة، فكيف يجوز قتلهم بدم بارد وهم أسرى؟
وليس من أخلاق المسلمين أن يتدنوا إلى فعل ما تفعله قوات الاحتلال من سلوك غير متحضر، يتمثل في قتل عشرات الآلاف من المدنيين العراقيين من النساء والأطفال والشيوخ بحجة ضرب المقاومة.
والواجب على المسلمين كافة الالتزام بالأحكام الشرعية التي لخصناها فيما سلف بيانه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
العدد (1621)، ص38-40 – 24 شعبان 1425ه – 2/10/2004م