لا شك أن خيار هذه الأمة سلفُها الصالح، وعلى رأسهم صحابةُ النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم، ولا نطيل في ذكر بيان ذلك من نصوص وردت في القرآن والسُّنة بأنهم كانوا أنقى الناس قلوبًا وأعظمهم فهمًا لنصوص الوحي، وأن المنتسب لهم ولطريقتهم في الديانة أقرب من غيره في إصابة الحق، فكل ذلك معروف مشهور، وهذا بخلاف من تبرأ منهم ومن طريقتهم، فإنه بعيد من الدين بقدر بعده عنهم.
لكن مصطلح «السلف» يحتاج إلى كثير تحرير على وضوحه في ذاته؛ لأن ما يتعلق به من مدلولات عند كثير من المنتسب إليهم قد تتفاوت كمثل ما بين السماء والثرى، وإذا نظرنا بعين الأخذ بتقدمتهم على غيرهم وحجية كلامهم -خصوصًا في العقائد- فستخرج تعريفات كثيرة، فقد يعرف البعض السلف بأنهم من عاشوا في القرون المفضلة الثلاثة الأولى، وسيدخل بناء على هذا التعريف من عاش في تلك الفترة من أهل البدع، ومنهم من سيعرفه بأنه كل من كان على هدي بعينه بصرف النظر عن وجوده في القرون الثلاثة، وبالتالي سيخرج منه من أفضلية الوقت، ومنه من سيجعله طبقة بعينها ممن عاشوا في هذا الزمن، وستنصرف الأفضلية إلى عين المُفضل الذي اختار لا السلف في أنفسهم ولا أفضلية زمانهم وكل هذا فيه من الخلل ما فيه.
وإنما إن أردنا أن ننظر في حجية كلامهم عن السلف فلا يسعنا إلا القول: إنهم أناس لهم وصف ممايز لغيرهم، وعاشوا في زمن دون غيرهم، واجتماعهم هو الحجة لا أقوال آحادهم، وبهذا نخلص من مشكلات التعريفات السابق ذكرها التي ستحمل المشكلات الآتية:
أولها: من جعل حجية لكلام بعض مَن خالفوا السُّنة والجماعة -فقط- لكونهم عاشوا في القرون الثلاثة الأولى؛ كالجهمية والقدرية والمعتزلة.
وثانيها: من جعل الحجية لهدي بعينه بصرف النظر عن أفضلية الوقت فلا معنى لكون هذا من السلف أو الخلف.
وثالثها: من جعل كلام آحاد السلف حجة في نفسه ولو خالف الآخرين، أو كان قولًا شاذا أو لا دليل عليه منقولاً أو معارضاً للقرآن أو السُّنة كغلط ورد من بعضهم سواء في أبواب العقائد أو العبادات.
والذي أردت بيانه هنا أنه ليس من العلم في شيء ألا يحرر لفظ «السلف» عند كثير ممن يلوكه فيقول: «هذا قول السلف» فقط لأنه قرأ نصًا في كتاب مات مؤلفه قبل عام 300هـ! فقد يُتصور أن الرجل مبتدع، أو أنه مهتد في نفسه لكنه أخطأ في المسألة وخالفه غيره، فضلًا عن عدم فهم الكلام حسب أصول العلم -عند كثيرين- الذي هو أس البلية في تناول كثير من المسائل، فالتعامل مع كلام السلف على أنه دليل في ذاته غلط على الشريعة مخرج منها، فالدليل هو الوحي قرآنًا وسُنةً، وما وافقهما من تفسير لا مخالف له هو المجزوم بصحته، وما أجمع عليه أهل السُّنة والجماعة من السلف الصالح هو الحجة التي تساق قولًا لهم لا ما تفرد به آحادهم أو ما لم يشتهر إلا عن أفراد معدودة ولا يعرف دليله، فالإجماع حجة إذا كان منقولًا لا كما يفهم البعض شيئًا من النصوص الشرعية أو كلام بعض السلف ثم يسوقه إجماعًا! فهذه عادة أهل البدعة لا أهل السُّنة الضابطين لمسالك الإجماع العارفين بمظانه.
وسنبين في مقال قادم، إن شاء الله، ورود الخطأ في مقالات بعض السلف.