الحسين بن عبدالله ابن سينا (*)
إِن أول مَا يَنْبَغِي أَن يبْدَأ بِهِ الْإِنْسَان من أَصْنَاف السياسة سياسة نَفسه إِذْ كَانَت نَفسه أقرب الْأَشْيَاء إِلَيْهِ وَأَكْرمهَا عَلَيْهِ وأولاها بعنايته وَلِأَنَّهُ مَتى أحسن سياسة نَفسه لم يعِ بِمَا فَوْقهَا من سياسة المصر.
وَمن أَوَائِل مَا يلْزم من رام سياسة نَفسه أَن يعلم أن لَهُ عقلاً هُوَ السائس ونفساً أَمارَة بالسوء كَثِيرَة المعايب جمة المساوئ فِي طبعها وأصل خلقهَا هِيَ المسوسة معرفَة أوجه الْفساد وعلاجها، وَأن يعلم أن كل رام إصْلَاح فَاسد لزمَه أَن يعرف جَمِيع فَسَاد ذَلِك الْفساد معرفَة مستقصاه حَتَّى لَا يُغَادر مِنْهُ شَيْئا ثمَّ يَأْخُذ فِي إِصْلَاحه وَإِلَّا كَانَ مَا يصلحه غير حريز وَلَا وثيق.
كذَلِك من رام سياسة نَفسه ورياضتها وَإِصْلَاح فاسدها لم يحز لَهُ أَن يَبْتَدِئ فِي ذَلِك حَتَّى يعرف جَمِيع مساوئ نَفسه معرفَة مُحِيطَة، فَإِنَّهُ إِن أغفل بعض تِلْكَ المساوئ وَهُوَ يرى أَنه قد عَمها بالإصلاح كَانَ كمن يدمل ظَاهر الْكَلم وباطنه مُشْتَمل على الدَّاء، وكما أَن الدَّاء إِذا قوي على الإهمال وَطول التّرْك نقض الِانْدِمَال وَقذف الْجلد حَتَّى يَبْدُو لعين النَّاظر، كَذَلِك الْعَيْب من معايب النَّفس إِذا أغفل عَنهُ كامناً حَتَّى إِذا لَاحَ لَهُ وَجه ظُهُور طلع مكتمنه آمن مَا كَانَ الْإِنْسَان لَهُ ضَرُورَة الصّديق لكشف عُيُوب النَّفس.
وَلما كَانَت معرفَة الْإِنْسَان نَفسه غير موثوق بهَا لما فِي طباع الْإِنْسَان من الغباوة عَن مساوئه وَكَثْرَة مسامحته نَفسه عِنْد محاسبتها، وَلِأَن عقله غير سَلام عَن ممازجة الْهوى إِيَّاه عِنْد نظره فِي أَحْوَال نَفسه كَانَ غير مستغن فِي الْبَحْث عَن أَحْوَاله والفحص عَن مساوئه ومحاسنه من مَعُونَة الْأَخ اللبيب الواد الَّذِي يكون مِنْهُ بِمَنْزِلَة الْمرْآة فيريه حسن أَحْوَاله حسناً وسيئها سَيِّئًا.
ضَرُورَة من يكْشف للرؤساء عيوبهم
وأحق النَّاس بذلك وأحوجهم إِلَيْهِ الرؤساء، فَإِن هَؤُلَاءِ لما خَرجُوا عَن سُلْطَان التثبت وَعَن ملكة التصنع تركُوا الاكتراث للسقطات وَتعقب الهفوات بالندمات؛ فاستمرت عَادَتهم على كَثْرَة الاسترسال وَقلة الاحتشام، إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُم برعت عُقُولهمْ ورجحت أحلامهم ونفذت فِي ضبط أنفسهم بصائرهم فحسنت سيرتهم واستقامت طريقتهم.
وَمِمَّا زَاد فِي عظم بلائهم باكتتام عيوبهم أَنهم هيبوا عَن التَّعْبِير بالمعايب مُوَاجهَة وَعَن النَّقْص والذم مشافهة وخيفوا فِي إعلان الثلب والعضب والشنع والجذب والهمز واللمز بِظهْر الْعَيْب، فَلَمَّا انْقَطع علم ذَلِك عَنْهُم ظنُّوا أَن المعايب تخطتهم والمثالب جاوزتهم فَلم تعرج بخططهم وَلم تعرس بأفنيتهم.
وَلَيْسَ كَذَلِك حَال من دونهم من الرعاع والسوقة، فَإِن أحدهم لَو رام أَن يخفى عَنهُ عيوبه يبدهه محبَّة بهَا ويتدارك عَلَيْهِ بأقبحها مَا اسْتَطَاعَ ذَلِك، فَإِنَّهُ يخالط النَّاس ويلابسهم ضَرُورَة والمخالطة تحدث المجادلة والمدافعة، وَذَلِكَ من أَسبَاب الْمُخَاصمَة والمخاصمة تُؤدِّي إِلَى التعايب بالمثالب والترامي بالعار، وَعند ذَلِك يكَاد كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ لَا يرضى بِذكر حقائق عُيُوب صَاحبه بل يتهمه بِالْبَاطِلِ ويفتعل عَلَيْهِ الزُّور فَهَؤُلَاءِ قد كفوا استرشاد جلسائهم وَبث الجواسيس فِي تعرف عيوبهم من قبل أعدائهم فَإِنَّهَا قد جلبت إِلَيْهِم من غير هَذَا الطَّرِيق، فَأَما من يسالم من السوقة النَّاس فَلَا يساورهم ويواتيهم وَلَا يلاحيهم فَإِنَّهُ لَا يعْدم من ينبهه على عَيبه وينصحه فِي نَفسه من حميم وَقَرِيب وخليط وجليس وأكيل.
__________________________________________________________
من كتاب «مجموع في السياسة»، المؤلف: الحسين بن عبدالله بن سينا.