نعيش زمن التسارع الإلكتروني حيث انفتح العالم ليصبح قرية صغيرة يتواصل سكانه من أقصى الشرق لأقصى الغرب، بكل سلاسة عن طريق «السوشيال ميديا»، أو ما يعرف بوسائل التواصل الاجتماعي، التي لم يقتصر تأثيرها على الكبار فحسب، بل امتد ليصل للأطفال كذلك؛ حتى بات «الموبايل» و«التابلت» في يد كل طفل، وأصبح الأطفال يقضون ساعات طويلة أمام الشاشات على اختلاف أنواعها، يتواصلون من خلال «الميديا» أو يشاهدون المسلسلات والأفلام ويلعبون الألعاب الإلكترونية؛ لكن المؤسف أنهم لا يستطيعون التحكم فيما يعرض عليهم من محتوى قد يكون هادفاً أو دون ذلك، فـ«السوشيال ميديا» كغيرها من كل مستحدثات العصر هي سلاح ذو حدين قد يحمل معه الإبداع والتطوير أو يخفي في جعبته الانحراف والتحلل.
وهذا ما جعلنا ندق ناقوس الخطر لما لتلك المواقع من تأثير مباشر على الطفل، حيث إن الأمر قد وصل للتحكم في معتقداته وقيمه الدينية والاجتماعية، وغرس الكثير من الأفكار والمفاهيم المغلوطة بداخله.
«إدمان» الأطفال لـ«الميديا»
أصبحت الشكوى من سيطرة «السوشيال ميديا» على عقول الأطفال واستنزاف وقتهم وطاقتهم، وما يتبع ذلك من عنف وانحراف سلوكي وأخلاقي هي الشكوى الشائعة في كل بيت في عصرنا الحديث، حتى إن البعض وصفه بـ«الإدمان».
وهذا ما أكده استطلاع أجراه مركز «بيو» للأبحاث، عام 2018، وشمل نحو 750 من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و17 عامًا، حيث إن 45% منهم متصلون بالإنترنت بشكل مستمر تقريبًا، و97% يستخدمون منصات التواصل الاجتماعي المختلفة؛ لذا بدأنا نجني بعضاً من الآثار السلبية لانفتاح الطفل غير المحدود على تلك المواقع، ومنها:
– انتشار العنف والبلطجة بين الأطفال نظراً لما يشاهدونه من أفلام ومسلسلات تصدر لهم العنف والبلطجة على أنهما الطريقة المُثلى لانتزاع الحقوق، وتهدر باقي القيم الإنسانية النبيلة.
– ذبذبة القيم الأخلاقية لدى الطفل وخلخلة معتقداته وموروثاته الدينية من خلال عرض مفاهيم منحرفة يتصدرها البلطجي البطل، والعاهرة الطيبة، والمجرم صاحب المواقف النبيلة، وتصدر النماذج السيئة للمشهد من خلال الأفلام والمسلسلات الهابطة.
– إهدار الكثير من وقت الطفل وجهده أمام تلك المواقع ما يجعله يصاب بالبلادة، ويغيب تفاعله مع المواقف المختلفة، ويسيطر القلق والتوتر العاطفي عليه كما يعاني من اضطرابات النوم والسمنة المفرطة.
– تفرض «الميديا» على الطفل حالة من العزلة والانفصال عن عالمه، كما أن الإفراط في استخدام الأطفال لوسائل التواصل الاجتماعي يجعلهم يفشلون في تكوين صداقات وحياة اجتماعية خاصة بهم، ولا يستطيعون قراءة عواطف وانفعالات البشر والتفاعل معها، وهذا يشكل خطراً مباشراً على الطفل.
– انتشرت خلال السنوات الأخيرة ظاهرة الانتحار، لكن المؤسف هو انتشارها بين الأطفال خاصة بعد ظهور الألعاب الإلكترونية التي ساهمت في تفشيها، مثل: «الحوت الأزرق»، و«تشارلي».. وغيرهما من الألعاب، حيث إن الانتحار ظاهرة غير فردية تتأثر بالعوامل الاجتماعية والبيئية المحيطة بالطفل.
خلق طفل مبدع
على الجانب الآخر، كان للانتشار الواسع لـ«السوشيال ميديا» آثار إيجابية ساعدت على تعزيز الكثير من المهارات لدى الطفل؛ حيث تعمل المسلسلات والأفلام الاجتماعية والألعاب الثقافية على تنمية مهارات الأطفال الاجتماعية والعقلية كالتواصل والقدرة على تحليل المواقف والتفكير البناء والإبداع.
– يستطيع الطفل من خلال التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي أن يتواصل مع أقاربه وأصدقائه؛ ويتعرف على أشخاص جدد على اختلاف البلدان والثقافات؛ ما يرفع من مستويات النمو الاجتماعي لديه، من خلال مشاركته للكثير من الفئات الاجتماعيّة في عالمه الافتراضي.
– لا يولد الطفل مبدعاً في كل أحواله، لكنه مولع دائماً بحب الاستطلاع، فهو كائن خيالي بطبعه، حيث يتسع خياله ليتفوق على واقعه، وهذا ما يجعله يبحث دائماً عن كل ما هو جديد، وربما تكون كلمة السر في «الميديا» على اختلاف أنواعها؛ التي تنمي مهاراته العقلية وتوفر له المعلومات بطريقة سهلة وبسيطة، وتحقق له الخيال الذي ينشده وتوسع من قدرته على التفكير والإبداع.
– سهلت «السوشيال ميديا» فكرة التعلم عن بُعد، حيث أثبتت تفوقها في توفير التعلم للأطفال بطريقة بسيطة وسهلة، واستطاعت ربط الطفل بالوسائل الحديثة، وتنمية اعتماده على نفسه، وإكسابه مهارة تحفيز الذات والانضباط وإدارة وتنظيم الوقت؛ كما وفرت المادة العلمية للأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة والمرضى، وانتقلت بالتعلم من قاعات الدراسة إلى فصول افتراضية ومدى واسع لا حدود له.
– تنمي «السوشيال ميديا» قدرة الطفل على التعبير عن ذاته وتزيد من ثقته بنفسه، حيث يعد تعزيز ثقة الطفل بنفسه وتشجيعه على احترام الذات في المراحل المبكرة من عمره أمراً له أهمية قصوى، لأنه يشجع الطفل على تحقيق أحلامه واستشعار لذة النجاح وتحقيق التعايش مع العالم.
أنشودة بناء أم صرخة هدم؟
يحتاج التعامل مع الأطفال الكثير من المهارات من قِبل الآباء حتى يتمكنوا من الحفاظ على الثوابت الدينية والأخلاقية لأطفالهم، خاصة مع التنامي الواسع للتكنولوجيا، واكتساح «السوشيال ميديا» بقوة لكل سبل الحياة، وتأثيرها على النشء في ظل غياب الرقابة الأسرية والتنشئة الدينية للطفل.
ويجب الحذر والتنبيه على ضرورة انتقاء المحتوى الذي يشاهده الطفل الذي يغرس بداخله القيم الدينية والأخلاقية ويساعده على تطوير ذاته وينمي قدرته على التفكير البناء والإبداع.
ولا يمكننا أن نتجاهل أن بناء الطفل الملتزم دينياً وأخلاقياً هو حجر الأساس لبناء مجتمع متقدم وراقٍ، وانحراف المسير بالطفل يتبعه انحراف المجتمع بأكمله؛ لذا وجب علينا التنبيه والحذر كل الحذر، فتربية النشء لا يمكن أن نتركها للعبث وبث السم في العسل.