قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: دخلت على أمير المؤمنين المعتصم بالله فقلت له: يا أمير المؤمنين، في اللسان عشر خصال؛ فهو «أداة يظهر بها حسن البيان، وظاهر يخبر عن الضمير، وشاهد ينبئك عن غائب، وحاكم يفصل به الخطاب، وناطق يرد به الجواب، وشافع تدرك به الحاجة، وواصف تعرف به الحقائق، ومُعَزٍّ ينفى به الحزن، ومُؤنس تذهب به الوحشة، وواعظ ينهى عن القبيح، ومُزَين يدعو إلى الحسن، وزارع يحرث المودة، وحاصد يستأصل الضغينة، ومله يونق الأسماع»(1).
اللسان ثعبان، وكلامه جروح وكلام، والكلمة أمانة وقولها ديانة ووضعها في غير محلها خيانة، وكم من قائل كلمة ربما دفعت عن الناس عرضه، وحمت وطنه ورفعت شعبه وأنارت له دربه! وكم من كلمة جرت الإنسان إلى الحتوف، بل ربما تشتعل الحروب بقليل من الحروف، فتكون على الأمة وبالاً، وتُصلي أبناءها ناراً! وهذه مفارقات عجيبة؛ فبكلمة يخلع الإنسان عباءة الكفر ويدخل إلى ساحة الإسلام والغفران! وبكلمة يخرج من الإسلام ويجر أذيال الخيبة والخسران! وبكلمة تحلّ للرجل زوجته وبكلمة تحرّم عليه! فالكلمة تمتلك عنصري الهدم والبناء والإعمار والدمار، فإن كنت برغيف الخبز تعيش يوماً، فأنت بالكلمة الطيبة تعيش عمراً.
قلم التسجيل الإلهي
مرسوم عظيم وأمر كريم تنزل من عند الغفور الرحيم مكتوب بخطوط العدل على صفحات الحق: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المجادلة: 6)، (كِرَاماً كَاتِبِينَ {11} يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (الانفطار)، وهذا العلَّامة ابن دقيق العيد نموذج يحتذى، يقول: «والله ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلاً إلا وقد أعددت لها بين يدى الله تعالى جواباً»(2)، ألا وإن من البلاغة الإيجاز في الكلام، وهنيئاً لمن كان كلامه حكمة، ونظره عبرة، وسكوته فكرة!
التجارة المزيفة
الغيبة والنميمة سلعة يتاجر بها أصحاب النفوس المريضة والقلوب العليلة، ويجدون فيها لغيظهم عزاء وسلوى، وهي حلقة في سلسلة من سلاسل المعاصي والذنوب، وهي مما عمت به البلوى؛ لأنها واد من الدماء مغروس بأشجار الكذب والزور والبهتان؛ لذا حرمها الإسلام وشدد النكير عليها؛ حماية لحق المسلم وعرضه، بل وصورها المولى جل ذكره في قرآنه بصورة منفرة تأباها الطباع السليمة والفطر القويمة؛ فإذا تكلم المسلم على أخيه في مقداره أو ميزانه أو وظيفته أو أخلاقه أو ديانته أو صفاته بما يكرهه ويسوؤه فهذه الغيبة، فكيف لو تكلم في الناس بما ليس فيهم؟! إن البلوى هنا أعم والعاقبة أطم، قال المعصوم صلى الله عليه وسلم: «من قال في مسلم ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال، ومن رمى مسلماً بشيء يريد أن يشينه به حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال»(3)، وبعد الملام تبقى الغيبة مرعى اللئام.
أوبة النفوس وانتكاسة الرؤوس
التكلم في الناس وتتبع زلاتهم وهفواتهم وهيئاتهم وأحسابهم وأنسابهم تجارة خسيسة يتاجر بها من ينتقص أشراف الناس، وهؤلاء لم يتربوا في حياض الإسلام، بل تربوا في حياض الجاهلية، وشربوا من مائها الآسن، وانتقاص الفضلاء وازدراء النبلاء مشؤوم وهو بصفاته مذموم، ومن أراد رفعة نفسه بانتقاص الآخرين فإنه مغرور، فضلاً عن أنه دين واجب الوفاء؛ فمن ظلم يبتلى بظالم، وهكذا تكون انتكاسة الرؤوس، أما الكمال وما أروعه فهو أن يسعى الإنسان في كمال نفسه، وأن يصحح ما أخطأه في ماضيه وأمسه، وينظر في مستقبله في قبره ورمسه، وبين النقص والكمال بون شاسع وأمد بعيد.
عباءة الجاهلية الحديثة
إن الجاهلية هي الجاهلية بأفكارها ومعتقداتها، وإن تشكلت ثيابها مع مر الغداة وكر العشي، قال صلى الله عليه وسلم: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن..»(4)، «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»(5)، وجاء عياض بن حمار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت الرجل من قومي يشتمني وهو أنقص مني نسباً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان»(6)، وما أكثر السباب واللعن بين الناس وكثرة المساس تذهب الإحساس!
الرجم بالكلمات
ثوابت الدين وجوهره أمور، هي بالإجماع محل اتفاق، وهذه حقيقة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، أما الفروع والمستحبات فهي محل اجتهاد واختلاف، ويجب أن يكون فيها من المرونة وسعة الصدر ما يتماشى مع سماحة ومرونة التشريع الإسلامي، وتأليف القلوب أفضل من التنازع على فعل المستحبات والفروع، وهذا عموم يعقبه خصوص، فإن الاختلاف يعظم وتسوء نتائجه إذا قال به داعية من الدعاة؛ لأنه يؤدي إلى التحزب والتعصب المذهبي وتبادل الاتهامات وإشعال نار العداوات، ثم إن هذا التطاحن الرهيب في أمور فرعية مضيعة للوقت في غير فائدة، وقعود بالهمة عن طلب المعالي، وهو عين ما يسعى إليه أعداء الإسلام، إن أمتنا الإسلامية صارت في المحافل كواو عمرو أو كالهمز في درج الكلام، فهذا يفسّق ذاك، وذاك يبدّع هذا، وآخر يكفّر الإثنين معاً، وبين هذا وذاك انفصمت عرى الجماعة وانفرط عقد الأمة، وبدلاً من التهادي بالأعطيات يكون التراشق بالكلمات والرجم بالعبارات!
جوهر القول وزبدته
إن النقطة المحورية تكمن في خطورة الكلمة، وكيف أنها تُحدث تلوثاً سمعياً يشبه التلوث البيئي وربما أشد! فرب كلمة أطلقت كالسيف البتار فمزّقت جواراً وخرّبت دياراً، وقطعت أواصر اجتماعية وشتت قرابات أسرية، يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله: «من العجيب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والسرقة وشرب الخمر والنظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه»(7)، وبنظرة على الواقع الحياتي، فإننا نحتاج إلى ضبط اللسان هذا الجمل الشارد الذي يحتاج قبل الانقياد والانصياع إلى الرياضة والانضباط، فضلاً عن الوفاء والاتباع، وهذه علامات مضيئة وتوجيهات رشيدة من محيط الواقع خرجت وبروح الإسلام وفي رياضه نبتت وفي سبيل العلاج نطقت بنبذة يسيرة في سلم الوصول إلى هدي الرسول، والحمد لله أولاً وآخراً.
____________________________
(1) البيان والتبيان، (2/ 50).
(2) طبقات الشافعية الكبرى، (9/ 212).
(3) صحيح أبي داود، (4883).
(4) صحيح البخاري، (48).
(5) صحيح مسلم، (943).
(6) صحيح ابن حبان، (5726).
(7) الداء والدواء، (1/ 366).