لا تنجح رسالة أو تزدهر حضارة أو تسبق أمة إلا إذا وقع تغيير جذري في كيان هذه الأمة السابقة المتفوقة، أو تلاقت خصائص مادية وأدبية في مقومات تلك الرسالة الناجحة والحضارة المزدهرة، نعم، فصعود الجماعات أو هبوطها لا يتم وفق حظوظ عمياء أو مصادفات طارئة! بل للمد والجزر علل كامنة إن غابت عن العين المجردة فلن تغيب عن البصائر الحادة والعقول الثاقبة.
سنن الله التي لا تتبدل
وقد تتبعت أسباب التحليق والإسفاف عند من يحلقون ومن يسفون فوجدت سنن الله الكونية تعمل عملها كأنها خصائص المادة وقوانينها الثابتة، ولا تنخرم ولا تتخلف، ويسرني أن أقدم نموذجاً لاطراد هذه الحقيقة من سورة «الأنفال»، وهي تخص أسباب النصر لقوم والهزيمة لآخرين، ولكن -قبل هذا التقديم- أثبت كلمة قالها سائح مسلم في ديار الأندلس قال: إن الدليل الذي قادني بين آثار الحمراء، تناول المسلمين بالكلمة الحاسمة، لقد قامت لهم دولة هنا لما كانوا لله خلائف، ثم طردوا من هذه الديار لما أصبحوا على ثراها طوائف، العبارة لاذعة بيد أنها تصور الحق المجرد، يوم قادهم الإيمان قامت لهم دولة ترعى الخير والشرف، وتصدر للآخرين العقائد والقيم، فلما أسلموا زمامهم للشهوات، ومزق وحدتهم الترف وحب الدنيا، لم يبق لوجودهم معنى، فعادوا من حيث جاؤوا، ترى هل وعوا ذلك الدرس الفاجع؟ لا أدري! ولكني وأنا أتدبر القرآن الكريم وجدت صورة لأبعاد التغير الذي يسبق كلمات الله الحاسمة في الإعزاز والإذلال، وجدتها وأنا أتلو سورة «الأنفال»، فأحببت أن أصورها في هذه العجالة، وفي وسط السورة تلمح قادة الوثنية الجاهلية وهم يودعون الحياة شر وداع، تتناولهم ملائكة الموت باللطمات والصفعات وهم يواجهون جزاءهم: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ {50} ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ) (الأنفال).
سنن التغيير
ماذا فعلوا؟ ظلوا أمداً طويلاً يكرهون الحق ويؤثرون العناد، ويحيون لأنفسهم فما يرجون لله وقاراً، ولا يتخذون عنده مآباً، كانوا في رخاء لا تشوبه أزمة، وفي أمان لا يعكره قلق، فما شكروا من هذه النعماء قليلاً ولا كثيراً، وجاءهم رجل منهم لا ترقى إلى سيرته تهمة فطاردوه في صلف غريب، والإنسان العادي إذا اشتبهت عليه الأمور طلب من الله أن يهديه إلى الصواب، أما هؤلاء فقد أبغضوا الحق، وأبغضوا النزول على حكمه، وقالوا مكابرين رب الكون: (إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (الأنفال: 32)، ولقي دعاؤهم الأخير بعض الإجابة، فلما التقوا بالمسلمين في «بدر» حل بهم خزي رهيب، وتبخر السراب الذي كانوا يعيشون في خداعه فسقطوا بين قتيل وأسير، إنهم ليسوا وحدهم الذين يفسدون فيعاقبون، كان الفراعنة على هذا الغرار، فغشيهم من اليم ما غشيهم؛ (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ {52} ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الأنفال)، وعند الجملة الأخيرة نقف طويلاً لنتساءل: ما أبعاد هذا التغيير وما مداه؟ إن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً ويؤكد بعضه بعضاً! في سورة أخرى يقول جل شأنه: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11)، ويقول بعدما أودى بنعيم «سبأ» وخرب جنانها: (وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ {16} ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (سبأ).
ويقول في أهل مكة لما حاربوا الرسالة الخاتمة، وقاوموا إمام الأنبياء، ورفضوا إجالة النظر فيما عرض من آيات بينات، يقول: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) (النحل: 112)، وما يجب إبرازه هو طول المدة التي يستغرقها الاختيار الإلهي، فإن الأقدار طويلة الأنفاس، والصراع بين الحق والباطل لا تكتشف عقباه في سنة أو سنتين، ولا في جولة أو جولتين، إنه قد يستوعب السنين والقرون: (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (الحج: 48)، ولما كان عمر الأفراد محدوداً، فقد اقتضت حكمة الله أن يهيئ لكل إنسان فرصة كافية يتمكن فيها من معرفة الحق، ويقدر فيها على اعتناقه، وذلك من تمام العدل الإلهي.
إن الناس تحكمهم تقاليد شديدة، ويتوارثون أفكاراً يحتاج نقدها ووزنها إلى زمان غير قصير، بل إن الأهواء التي تصرف البشر لها سلطان محيط، والخلاص منها لا يتم بين عشية وضحاها، وقد تأملت في ماضي خالد بن الوليد عبقري الحروب الملهم، وماضي عمرو بن العاص السياسي الداهية، فوجدت كلا الرجلين لم ينشرح صدره للإسلام إلا بعد ما يقرب العشرين سنة، ومن رحمة الله وحكمته أن منحهما هذه الفرصة، وهما مثل لغيرهما من سائر الخلق، وفي سورة «الأنفال» رأينا المعركة التي قصمت ظهر الوثنية، وقعت بعد خمس عشرة سنة من بدء الرسالة كانت هذه الفترة هي المدة التي حددها القدر الأعلى ليكتشف مصير فريقين من الناس، أولهما: المؤمنون الذين تحملوا العنت وصابروا الليالي الكوالح وهم يساندون الحق ويأملون في الغد القريب أو في الدار الآخرة إن فاتهم النصر في هذه الدنيا، والفريق الثاني: الكفار الذين قاوموا الشعاع المقبل بكل ما لديهم من جبروت، واستماتوا كيما يبقى ليل الوثنية مخيماً على جزيرة العرب وكيما تبقى الخرافات تسرح في المشارق والمغارب.
ويخيل إلى أنه إلى آخر ليلة باتها المشركون قريباً من بدر كانت الفرصة باقية أمامهم ليسلموا ويسلموا، ولكن المرء عندما يمضي على سيرته، أو عندما يتحرك وفق طبيعته يرتكب الغلطة التي تبت في عاقبته كلها، أي يفعل ما يسمى بالقشة التي قصمت ظهر البعير، أو القطرة التي فاض بها الإناء، وذلك ما فعله أبو جهل، كان الرجل يستطيع أن يعود بقومه ما دامت القافلة التي خرجوا لإنقاذها قد نجت، بيد أن مشاعر الكبرياء والغرور هاجت في دمه فقال: لا نعود حتى ننحر الجزور، ونشرب الخمور، وتغني لنا القيان، ويسمع بنا العرب فلا يزالون يهابونا أبداً، أي أنه كان حريصاً على إذلال الإسلام وأهله في مهجرهم الجديد، إن هذا القصد النزق هو الذي ذبحه، وقاد قومه معه إلى المأساة! وهذا ما تفسره الآيات من سورة «الأنفال» التي نزلت لتشرح العدل الإلهي في مصاب المهزومين: (وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال: 42)، وفي أول السورة يزداد الأمر وضوحاً، إن القدر الأعلى تدخل على غير ما يود المؤمنون! إنهم كانوا يودون الأوبة إلى المدينة بغنيمة باردة يدعدعون بها حياتهم المرهقة! ولكن الله -بعدما أنهى المشركون الفرصة الممنوحة لهم كي يعقلوا- قرر إنزال ضربة مهينة بهم: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ {7} لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (الأنفال)، إن الأمم تضيع بعدما تبدد آخر فرصة للنجاة، والأقدار التي تنزل بصعود هذا، أو هبوط ذاك ليست حركات عابثة، إنها أقدار تزن بدقة هائلة مسالك الأفراد والجماعات.
وتتجدد فرصة النجاة، أو إمكانات التوبة مرة أخرى أمام الصناديد الذين وقعوا أسرى! لطالما ضيقوا الخناق على الآخرين وحرموهم الكلمة وحرية المعتقد، وها هم أولاء أصبحوا في قيود الهوان والمسكنة لقد قيل لهم: إنكم وحدكم الذين تصنعون مستقبلكم، إن انتويتم خيراً للناس انفتحت أمامكم مجالات رحبة للحركة والعطاء، وإلا فلكم الويل: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {70} وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الأنفال).
التدخل الرباني
إن الخونة قد يستطيعون الإساءة إلى غيرهم ردحاً من الزمان، وقد يتطاولون في المجتمعات ويحسبون أن الجو قد خلا لهم، غير أن القضاء الحكيم يتربص بهم إلى حين، ثم يستمكن الوثاق من أعناقهم، وندع المجتمع الكفور يلقى مصيره كما صورته سورة «الأنفال»، ونلقى نظرة أخرى على المجتمع المؤمن! لقد عاش قبل الهجرة وبعدما يحترم دينه، ويقدم مطالبه على رغائبه، ويحمل في الحياة شارته ويرفع رايته! وكان خصومه يستكثرون عليه حق الحياة كما يريد، بل كانوا يروعونه في الحرم الآمن، ويرغمونه على النزوح هنا وهناك، لقد أنالته الأقدار مكافأة سخية لم تخطر له ببال، فضلاً عن أن يرسم لها خطة ويشرف على التنفيذ، أجل، لقد أنالته الأقدار النصر والتمكين والسيادة، وإلى ذلك أشارت الآية الكريمة: (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال: 26)، وهنا نلقى نظرة أشمل على السورة كلها، لنرى أنها في صدرها رسمت صورة المجتمع المؤمن حقاً ثم بثت خلال القصص الواعي وعبره البالغة نداءات شتى للمؤمنين تحدوهم إلى الكمال وكأنها تقول لهم: إن البقاء في القمة يحتاج إلى مثل الجهد الذي بذر في بلوغها! فلا قعود ولا ترف، ومن أجل ذلك تضمنت السورة ستة نداءات لا يستغني عنها سلف ولا خلف، بل لعلنا أحوج الناس إلى فقهها، أول هذه النداءات وآخرها يقومان على معنى واحد، هما قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ) (الأنفال: 15)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ) (الأنفال: 45).
وثم أربعة نداءات أخرى تتضافر على صون الأمة، واستدامة صلاحيتها للرسالة التي تحملها، هي قوله:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ) (الأنفال: 20).
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: 24).
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال: 27).
وأخيرا قوله: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً) (الأنفال: 29).
ذلكم هو الأساس للتغير الشامل الذي يجيء بعده حكم القدر بيننا وبين أعداء الله، وهو أساس لا يختلف مع اختلاف الليل والنهار.