قبل أعوام مضت حين نشبت ثورة التواصل الاجتماعي وتحديداً بعدما أصبحت تلك المواقع التواصلية سلاحاً في يد المهمشين والمستضعفين والمعارضين السياسيين، وصوتاً للروايات غير الرسمية للأحداث، وأداة لرفض الظلم والاستبداد الاجتماعي والسياسي، كان المناخ العام متفائلاً بتلك المنصات الثورية التي فتحت المجال واسعاً لكل فرد في هذا العالم ليطل برأسه ويحكي قصته الخاصة، ويُسمِع العالم صوته ويعبر بحرية عن رؤاه وآراءه ونفسه.
ومواقع التواصل الاجتماعي ثورة في عالم الاتصال؛ إذ إنها أصبحت السبب الرئيس –وفي كثير من الأحيان الوحيد– لاستخدام كثيرين للإنترنت، فملايين البشر من انتباهتهم الصباحية حتى غفوتهم آخر الليل لا يفعلون شيئاً سوى التحديق في شاشات هواتفهم يمررون الصفحات لأسفل لمتابعة الأخبار و«الترند» أو موضوعات النقاش العام الأكثر تفاعلاً يوماً بعد يوم، دون اهتمام بأي شيء آخر خارج دائرة تلك المواقع.
وتشير الإحصاءات إلى أن حوالي 520 مليون مستخدم قد سجلوا انضمامهم إلى مواقع التواصل الاجتماعي خلال عام 2012 فقط، في إشارة واضحة لما أحدثه استخدام وسائل التواصل الاجتماعي خلال «الربيع العربي» من ضجة بشأن هذه المواقع وأهميتها، والآن تشير الإحصاءات بأن أكثر من نصف سكان العالم يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بنسبة 60% من إجمالي سكان العالم، بينما زاد استخدام الإنترنت عام 2022 بمعدل 2% عن عام 2021، بما يوضح أثر استخدام مواقع التواصل على زيادة معدل استخدام الأفراد للإنترنت، حيث إن الفرد العادي يمتلك في المتوسط حسابات شخصية على 6 منصات وسائل تواصل مختلفة، ويقضي تقريباً 3 ساعات من يومه متصلاً بمواقع التواصل، فمن بين كل 10 دقائق يقضيها الفرد على الإنترنت هناك 4 دقائق يمضيها على مواقع التواصل الاجتماعي.
صناعة النمط
وقد ظهرت في الأعوام القليلة الماضية كثير من الدراسات المتعمقة بشأن الآثار السلبية المتعددة لمواقع التواصل الاجتماعي سواء على مستوى الفرد نفسياً وعقلياً وصحياً، أو على مستوى المجتمعات والدول اقتصادياً وسياسياً، لكن من بين كل تلك المثالب التي يجنيها البشر بفعل ازدياد نسب استهلاك تلك المواقع سنوياً، يبدو أن الأثر الأسوأ على الإطلاق هو ما تصنعه تلك المواقع بالتلاعب في عقول الأفراد من وهم النموذج والنمطية في شكل الفرد المثالي.
فقد نتج عن التماهي مع تلك المواقع أن خلق كل فرد صورة نمطية مثالية مخالفة لحقيقته على تلك المواقع، بهدف الحصول على الإعجابات من الأصدقاء وتكوين صورة أكثر إشراقاً عن حقيقته، ونتج عن ذلك أن شاع التزييف بشكل مبالغ فيه إلى أن تاهت الحقائق وتلاشى الصدق.
وبانتشار التزييف المنظم بين الناس نتيجة تأثر كل شخص بدائرة معارفه وأصدقائه ومحاولة تقليد الآخرين، أصبح النمط المثالي للإنسان الطبيعي شديد الصعوبة، ورفع ذلك من معدلات عدم رضاء الإنسان عن نفسه، إذ كيف يفعل ذلك وهو يرى الآخرين –في صورتهم النمطية المزيفة– أفضل منه من حيث الشكل والمضمون.
وتشير الدراسات إلى ما نتج عن ذلك الوهم النمطي الزائف والصورة المصطنعة للإنسان «كامل الأوصاف» من تأثير على مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، إذ أظهرت الدراسات بأن مستخدمي التواصل الاجتماعي لديهم استعداد أكبر بثلاثة أضعاف الأفراد العاديين للإصابة بالاكتئاب والقلق.
ثقافة الفلاتر
ويتجلى الأثر الأكثر سوءاً في صناعة النمط المثالي للإنسان على مواقع التواصل الاجتماعي، عبر شيوع ثقافة استخدام الفلاتر لتحسين شكل الإنسان في سلوك أصبح شائعاً ومقبولاً.
لكن هذا السلوك «التجميلي» لشكل الإنسان قد جعل من معايير الجمال أكثر صعوبة، وأسهم في نسيان مستخدمي تلك الفلاتر لشكل الإنسان الطبيعي، فلم يعد من المحتمل أن يرى الإنسان خلال تصفحه الطويل للمنصات المختلفة صورة تحتوي التجاعيد أو يغيب عنها التجميل، بشكل جعل النساء والمراهقين تحديداً يرون في شكلهم الطبيعي أمراً مستغرباً، فشتان بين مئات الصورة المفلترة والوجه الذي تراه في المرآه.
الحياة المثالية
بينما تمرر إصبعك على شاشة هاتفك متأملاً أحد مواقع التواصل الاجتماعي، فإنك على الأرجح ستشاهد عشرات الصور الشخصية التي يشاركها الآخرون على تلك المواقع.
في تلك الصور: الجميع سعداء، وجوههم مشرقة وخالية من العيوب، يعيشون حياة فارهة، يستمتعون بأوقاتهم عبر السفر والرحلات بشكل متكرر –ويومي أحياناً- ويشاركون لحظاتهم الرائعة باستمرار، وهو ما يوحي لكل شخص آخر بأنه الوحيد الذي يعاني الشحوب في الوجه أو عدم القدرة المادية على السفر والارتحال والتمتع بالحياة، وبأن حياته سيئة أكثر من المعتاد.
تضع الصورة النمطية شديدة المثالية على مواقع التواصل الاجتماعي الفرد العادي في موقع الحنق وعدم الرضا والحزن بشكل دائم، فطالما أن الجميع يرسم صورة زائفة ومثالية عن حياته، فالجميع غير راضٍ ويجدر به السعي الدائم نحو الوصول إلى تلك الحياة، فإن لم تستطع أن تصل إلى تلك الحياة في الحقيقة، فما عليك سوى تجهيز لقطة مصورة ونشرها على حسابك لإيهام الآخرين بأن لديك واحدة، وبذلك يدور الجميع في فلك عدم الرضا عن الذات والبحث الدائم عن الأفضل ليكون مثل الآخرين على مواقع التواصل الاجتماعي.
وقد توصلت الدراسات إلى أن استخدام تلك الصور النمطية جعل أكثر من نصف مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي غير راضين عن أنفسهم، وبخاصة لدى هؤلاء الذين تتراوح أعمارهم فيما بين 18 – 34 عاماً، حيث إن رؤية صورة الآخرين التي تُظهر مدى سعادتهم قد قللت من اعتداد الأفراد بأنفسهم نتيجة المقارنة المستمرة مع أقرانهم.
ويعد الفكاك من ذلك الاكتئاب وعدم الرضا عن الذات أمراً لا بد منه لكي يتمكن الإنسان من الحفاظ على صحته النفسية والعقلية، وخاصة الشباب واليافعين شديدي التأثر بتلك المغريات الزائفة، ولا يتأتى ذلك إلا بمزيد من التوعية المستمرة بأن وسائل التواصل الاجتماعي غير حقيقية على الإطلاق، وكما أن البشر يستخدمون الفلاتر طوال الوقت لتحسين صورتهم الشكلية، فإنهم يفعلون الأمر نفسه في سائر نواحي حياتهم، وبالتالي لا يجب أخذ كل شيء في تلك المواقع على محمل الجد.
وينصح الخبراء النفسيون بأن أفضل وسيلة للحفاظ على التوازن النفسي هو تقليل مدة استخدام مواقع التواصل يومياً، بالإضافة إلى تقليل عدد المنصات المستخدمة، إذ يزداد الضرر النفسي بازدياد عدد المنصات وبإمضاء وقت أطول عليها، وبينما ينصح بعض الخبراء بالإقلاع كلياً عن استخدام تلك المواقع لتحقيق شفاء تام من آثارها النفسية الضارة، يرى آخرون بأن لتلك المواقع فوائد متعددة لا يمكن الاستغناء عنها وبذلك ينصحون بالحد من الاستخدام وتنظيمه بدلاً من الإقلاع التام.
_____________________________________________________
باحثة في الفكر الإسلامي، دكتوراة العلوم السياسية جامعة القاهرة.