قد ينكر البعض -جهلًا أو جحودًا- وقوع الخطأ من بعض السلف في أبواب عدة، وهذا راجع إلى أن تعريف لفظة «السلف» فيها إشكال كبير عند البعض، وهو دافع إلى تصور العصمة في آحادهم اعتمادًا على فهم فاسد لبعض النصوص، كقول الله تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً) (النساء: 115)، أو كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ لا يجمعُ أمَّتي عَلَى ضَلَالَة»، وغير ذلك، فالإجماع الذي هو حجة هو ما انعقد واشتهر ونُقل وليس منه قول عرف به واحد واثنان أو شيء نقل بالفهم لا بالنص على الإجماع، والذي يتقرر بيقين شرعًا وعقلًا هو استحالة عدم ورود الخطأ من بعض السلف في العقائد، فالخطأ مورده واحد ودواعيه لا تزول إلا عن معصوم، وأسبابه إما عدم بلوغ النص أو عدم ظهور دلالته عند البعض على مراد الشارع أو تعارض الأخبار في الظاهر، وهذا حاصل في كل الطبقات سلفًا وخلفًا، ولذلك وردت أخطاء ونقل خلاف في أبواب من العقائد عند السلف وفي جميع طبقاتهم ولا يسقط ذلك شيئًا من إمامتهم وفضلهم، وسنذكر بعضها منها تمثيلًا -وتحديدًا في العقائد- لقربه من موضع الشاهد وإلا فقد ورد أكثر منه بكثير في الأحكام، فمنه:
1- الخلاف الوارد في رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لله تعالى، فأثبت البعض الرؤية كابن عباس رضي الله عنهما ومن تبعه كعكرمة وعطاء ثم أحمد رحمهم الله، مستدلين بظاهر القرآن: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) (النجم: 13)، وحديث أنس المخرج في الصحيحين، وإنكار البعض لها مع إثباتهم رؤية أخرى هي رؤية القلب، وهو قول عائشة رضي الله عنها وجماهير أهل العلم، مستدلين بأدلة عدم حصول الرؤية للآدمي بالعين في الدنيا وهي كثيرة، وبقوله عليه الصلاة والسلام لما سئل: هل رأيت ربك؟ فقال: «نور أنى أراه!»، وبصرف النظر عن التحقيق للمقالات والقول بالترجيح لأحدها ومحاولة الجمع، فالخلاف وارد ولو ظاهرًا على أقل تقدير، ولم يرد ولا زعم عن أحد طرفي الخلاف رمي الآخر بمخالفة الإجماع أو البدعة أو غير ذلك كما يفعل المخطئون في تناول تراثهم ومقالاتهم رحمهم الله.
2- إنكار الإمام شريح رحمه الله قراءة «بل عجبتُ»، بل وإنكاره صفة العجب في حق الله سبحانه وتعالى مع ورودها في الأحاديث الصحيحة تصديقًا لهذه القراءة المتواترة، قال القرطبي: وفي هذا بيان الكسر لقول شريح حيث أنكر القراءة بها، روى جرير والأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: قرأها عبدالله يعني ابن مسعود «بل عجبتُ ويسخرون»، قال شريح: إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم، قال الأعمش فذكرته لإبراهيم فقال: إن شريحاً كان يعجبه رأيه، إن عبدالله كان أعلم من شريح وكان يقرؤها عبدالله: «بل عجبتُ»، ورغم ذلك ما خالف أحد من السلف أو الخلف في إمامته وفضله فضلًا عن الكلام في تبديعه معاذ الله.
3- كلام الإمام ابن خزيمة في حديث الصورة، وقد ذكر الحافظ أبو موسى المديني فيما جمعه من مناقب الإمام الملقب بقوام السُّنة أبي القاسم إسماعيل بن محمد التيمي، قال سمعته يقول: أخطأ محمد بن إسحاق بن خزيمة في حديث الصورة، ولا يطعن عليه بذلك بل لا يؤخذ عنه هذا فحسب، قال أبو موسى أشار بذلك إلى أنه قلّ من إمام إلا وله زلة فإذا ترك ذلك الإمام لأجل زلته ترك كثير من الأئمة، وهذا لا ينبغي أن يفعل. انتهى.
4- الكلام عن أن الميت يعذب ببكاء أهله، أخرج مسلم في صحيحه من حديث عن عمرة بنت عبدالرحمن، أنها سمعت عائشة، وذكر لها أن عبدالله بن عمر يقول: إن الميت ليعذب ببكاء الحي، فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبدالرحمن، أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ إنما مر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على يهودية يُبكى عليها فقال: «إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها»، وفي رواية «قالت: إنكم لتحدثون عن غير كاذبين ولا مكذبين ولكن السمع يخطئ».
ولو ذهبنا لعد الأمثلة لأطلنا، ولو جعلناها في أبواب الشريعة كلها لا العقائد فحسب لاحتجنا إلى كتب، لا سيما لو توسعنا في ذكر مسائل تفرد بها بعضهم سمعية كانت أو بالفهم، وغرض ما سبق ذكره أن خطأ بعضهم لا حجية له وإنما الحجة فيما أجمعوا عليه فقط، وأن ما أخطأ فيه أئمة الدين سواء في العقائد أو غيرها لم يتعمدوا الخطأ فيه، بل ورد عليهم كسائر بني آدم، وذلك بسبب عدم بلوغ النص أو بلوغه مع اشتباه معناه أو ثبوت معناه وثبوت غيره مما هو أوضح منه في نظرهم، ولذلك يغفر الله هذا الخطأ أو التأويل الذي هو منه كما قال ربنا الرحمن عز وجل: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة: 286).