جاء رجل يقال له حمزة بن دهقان لبشر الحافي العابد الزاهد المعروف، فقال: أحب أن أخلو معك يوماً، فقال: لا بأس تُحدد يوماً لذلك، يقول: فدخلت عليه يوماً دون أن يشعر؛ فرأيته قد دخل قبة فصلى فيها أربع ركعات لا أحسن أن أصلي مثلها، فسمعته يقول في سجوده: «اللهم إنك تعلم فوق عرشك أن الذل –يقصد بالذل عدم الشهرة– أحب إليَّ من الشرف، اللهم إنك تعلم فوق عرشك أن الفقر أحب إليَّ من الغنى، اللهم إنك تعلم فوق عرشك أني لا أُوثر على حبك شيئاً»، يقول: فلما سمعته أخذني الشهيق والبكاء، فقال: «اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن هذا هنا لم أتكلم».
وفي هذه القصة لمحات حول الإخلاص والاجتهاد في إخفاء العمل الصالح، فقد كان وعاء إخلاصهم ممتلئاً حتى فاض على من حولهم، رحمهم الله تعالى، فالمسلم مطلوب برعاية النية وعنايتها وتعهدها بالخير كالنبتة الصالحة التي يخشى فسادها من تقلبات الأجواء وفساد المحيط.
كما أنه ذكر في مناجاته أنه يفضل أن يكون مغموراً على أن يكون مشهوراً ذائع الصيت، وهذه سمات المحسنين الذين لا يبالون بالدنيا أتت أم أدبرت؛ فإن هي أتت فشكر وهلكة في الخير، وإن هي أدبرت فصبر وثبات على الخير، فهو في الحالين موقوف على شرط البر والصلاح.
كذلك ذكر أن الفقر أحب إليه من الغنى، وهذه سيم المتخففين مما يثقل الظهر ويطيل المسألة ويوجب النقمة، فما قلَّ وكفى خير مما كثر وألهى، وما دام الكفاف موجوداً فما فوقه رفاه يعده الورعون من سوء الأدب مع قصر الرحلة وضعف الراحلة.