يُروى أن أحد السلف وهو ثابت بن النعمان دخل إحدى المزارع وكان جائعاً متعباً، فشدته نفسه لأن يأكل، وبدأت المعدة تقرقر؛ فأطلق عينيه في الأشجار، فرأى تفاحة فمد يده إليها ثم أكل نصفها بحفظ الله ورعايته ثم شرب من ماء نهر بجانب المزرعة، لكن انتبه بعد ذلك من غفلته بسبب الجوع وقال لنفسه: ويحك! كيف تأكل من ثمار غيرك دون استئذان؟! وأقسم ألا يرحل حتى يدرك صاحب المزرعة يطلب منه أن يحلّ له ما أكل من هذه التفاحة، فبحث حتى وجد داره فطرق عليه الباب، فلما خرج صاحب المزرعة استفسر عما يريد، قال صاحبنا: دخلت بستانك الذي بجوار النهر وأخذت هذه التفاحة وأكلت نصفها ثم تذكرت أنها ليست لي وأريد منك أن تعذرني في أكلها وأن تسامحني عن هذا الخطأ!
قال الرجل: لا أسامحك، ولا أسمح لك أبداً إلا بشرط واحد!
قال صاحبنا: وما هذا الشرط؟
قال صاحب المزرعة: أن تتزوج ابنتي!
قال ثابت: أتزوجها.
قال الرجل: ولكن انتبه، إن ابنتي عمياء لا تبصر، وخرساء لا تتكلم، وصماء لا تسمع!
وبدأ ثابت بن النعمان يفكر ويقدر؛ أنعم بها من ورطة! ماذا يفعل؟! ثم علم أن الابتلاء بهذه المرأة وشأنها وتربيتها وخدمتها خير من أن يأكل الصديد في جهنم جزاء ما أكله من التفاحة، وما الأيام وما الدنيا إلا ساعات معدودات، فقَبِل الزواج على مضض وهو يحتسب الأجر والثواب من الله رب العالمين.
وجاء يوم الزفاف وقد غلب الهمّ على صاحبنا: كيف أدخل على امرأة لا تتكلم ولا تبصر ولا تسمع؟! فاضطربت حاله وتمنى أن لو تبتلعه الأرض قبل هذه الحادثة، ولكنه توكل على الله وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون!
ودخل عليها يوم الزفاف فإذا بهذه المرأة تقوم إليه وتقول له: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فلما نظر إليها تذكر ما يتخيله عن الحور العين في الجنة، قال بعد صمت: ما هذا؟ إنها تتكلم وتسمع وتبصر، فأخبرها بما قال عنها أبوها قالت: صدق أبي ولم يكذب!
قال: أصدقيني الخبر.
قالت: أبي قال عني: إنني خرساء لأنني لم أتكلم بكلمة حرام ولا تكلمت مع رجل لا يحل لي، وإنني صماء لأنني ما جلست في مجلس فيه غيبة أو نميمة أو لغو، وإنني عمياء لأنني لم أنظر إلى أي رجل لا يحل لي.
فتفكر أخي رعاك الله إلى منن الله وفضله، وكيف يجازي على الإحسان من عباده ما لا يتوقعونه هم من عظيم كرم وفضل وجزاء، فهذه القصة بدأت بأكل الرجل من أملاك الغير واقتحام حديقته، ولكنها انتهت بمنح دنيوية معجلة تنم عن قبول أخروي أعظم وأبلغ.
ولنا وقفة مع الذنب، فإن المؤمن ليس معصوماً حال وقوع الذنب، ولكن نفسه لا تقر بعده ولا تهنأ بعيش حتى تتوب منه إذا كان بينه وبين الله، ثم تتحلل من حقوق العباد المعقودة عليه حتى تكتمل للتوبة شروطها.
وفيما يتعلق بحقوق العباد هنا لطيفة أخرى؛ وهي التحلل من الظلم والأذى النفسي وليس رد المظلمة فقط، وهذا سلوك المحسنين المتورعين، فإن رد المثل من موضوع المظلمة المختلف عليه ربما فات أوان الحاجة إليه أو ذهبت قيمته وظلت نار المظلمة وقهر من وقعت عليه تغلي في صدره، وهذا أحرى أن يتحلل منه العبد المؤمن قبل لقاء ربه الذي يقتص فيه للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.
وفي قصتنا فقد قبل النعمان أن يتزوج ممن لا تصلح للزواج، بل تحتاج للخدمة دهراً آبداً حتى يوافي أحدهما الأجل مقابل أن يتحلل من نصف ثمرة! فمتى نتحلل نحن مظالمنا ونقف عند أخطائنا ونتوب إلى الله توبة صادقة نصوح؟!
وأخيراً، فإن هذه القصة وردت وانتشرت بين الناس وتناقلوها وينسبها البعض إلى والد الإمام أبي حنيفة النعمان صاحب المذهب، ولكن لم يقف أحد على صحة ذلك، وهو ما لا ينافي أخذ العبرة والعظة والاستفادة، فقد شرع التمثل بالقصص للتدبر، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فإنه كانت فيهم أعاجيب»، كما أنه نذكر أيضاً بأن الأكل من الثمر المعلق لا شيء فيه، إلا أن صاحب قصتنا قد اقتحم بستاناً وأكل من داخله.