كما تطلع الشمسُ بأنواعها فتُفَجِّرُ ينبوعَ الضوء المسمَّى النهار، يولَد النبيُّ فيوجد في الإنسانية ينبوع النور المسمَّى بالدين، وليس النهار إلا يقظةَ الحياة تحقَّقُ أعمالَها، وليس الدينُ إلا يقظة النفس تحقق فضائلَها.
وَرَعَشَاتُ الضوء من الشمس هي قصة الهداية للكون في كلام من النور، وأشعة الوحي في النبي هي قصة الهداية لإنسان الكون في نور من الكلام.
والعامل الإلهيُّ العظيم يعملُ في نظام النفس والأرضِ بأداتين متشابهتين:
أجرام النور من الشموس والكواكب، وأجرام العقل من الرُّسُلِ والأنبياء.
فليس النبي إنساناً من العظماء يقرأ تاريخه بالفكر معه المنطق، ومع المنطق الشك، ثم يدرس بكل ذلك على أصول الطبيعة البشريةِ العامة؛ ولكنه إنسانٌ نجميٌ يقرأ بمثل =التلسكوب+ في الدقة، معه العلم، ومع العلم الإيمان؛ ثم يدرس بكل ذلك على أصول طبيعته النورانية وحدها.
والحياةُ تنشئ علم التاريخ، ولكن هذه الطريقة في درس الأنبياء صلوات الله عليهم تجعل التاريخ هو ينشئ علم الحياة؛ فإنما النبي إشراقٌ إلهيٌ على الإنسانية، يُقَوِّمُها في فلكها الأخلاقي، ويجذبُها إلى الكمال في نظامٍ هو بعينه صورة لقانون الجاذبية في الكواكب.
ويجيء النبي فتجيء الإلهية معه في مثل بلاغة الفن البياني، لتكون أقوى أثراً، وأيسر فهماً، وأبدع تمثيلاً، وليس عليها خلاف ٌ من الحس.
وهذا هو الأسلوب الذي يجعلُ إنساناً واحداً فَنَّ الناسِ جميعاً، كما تكونُ البلاغةُ فنَّ لغة بأكملها؛ هو الشخص المفسر إذا تعسف الناسُ الحياةَ لا يدرون أين يؤمنون منها، ولا كيف يتَهدَّون فيها، فتضطرب الملايين من البشرية اضطرابها فيما تنقبض عنه وتتهالك فيه من أطماع الدنيا، ثم يخلق رجل واحد؛ ليكون هو التفسيرَ لما مضى وما يأتي، فتظهرَ به حقائقُ الآداب العالية في قالب من الإنسان العامل المرئي أبلغ مما تظهر في قصة متكلمة مروية.
وما الشهادة للنبوة إلا أن تكون نفسُ النبي أبلغَ نفوس قومه، حتى لهو في طباعه وشمائله طبيعة قائمة وحدها، كأنها الوضع النفسانيُّ الدقيق الذي يُنْصَبُ لتصحيح الوضع المغلوط للبشرية في عالم المادة وتنازع البقاء، وكأن الحقيقة السامية في هذا النبي تنادي الناس: أن قَابِلوا على هذا الأصل، وصحِّحوا ما اعترى أنفسكم من غلَط الحياة وتحريفِ الإنسانية.
ومن ثمَّ فنبي البشرية كلِّها من بُعثَ بالدين أعمالاً مفصَّلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه بمصلحتها، فهو يُعطي الحياة في كل عصر عقلها العمليَّ الثابتَ المستقرَّ تنظِّم به أحوال النفس على مَيْزة وبصيرة، ويَدَع للحياة عقلَها العلمي المتجددَ المتغير تنظِّم به أحوالَ الطبيعة على قصْد وهدى.
وهذه هي حقيقة الإسلام في أخص معانيه، لا يُغني عنه في ذلك دينٌ آخر، ولا يؤدِّي تأديته في هذه الحاجة أدبٌ ولا علم ولا فلسفة، كأنما هو نبعٌ في الأرض لمعاني النور، بإزاء الشمس نبع النور في السماء.
وكل ذلك تراه في نفس محمد ” فهي في مجموعها أبلغ الأنفس قاطبة، لا يمكن أن تعرف الأرض أكملَ منها، ولو اجتمعت فضائل الحكماء والفلاسفة والمتألِّهين وجُعلت في نِصاب واحد _ ما بلغتْ أن يجيء منها مثل نفسه ” وكأنما خرجت هذه النفس من صيغة كصيغة الدُرَّة في مَحَّارتها، أو تركيب كتركيب الماس في مَنْجمه، أو صفة كصفة الذهب في عِرْقه، وهي النفس الاجتماعية الكبرى، من أين تَدَبَّرْتَها رأيتها على الإنسانية كالشمس في الأفق الأعلى تنبسط وتَضْحَى.
وتلك هي الشهادة له بأنه خاتم الأنبياء، وأن دينه هو دين الإنسانية الأخير، فهذا الدين في مجموعه إن هو إلا صورة تلك النفس العظيمة في مجموعها: صلابتُه بمقدار الحق الإنساني الثابت، لا بمقدار الإنسان المتغير الذي يكون عند سبَبٍ جبَلاً صَلْداً يَشْمَخ، وعند سببٍ آخر ماء عذب يجري.
وهو دين يعلو بقوة ويدعو إليها، ويريد إخضاع الدنيا وحكمَ العالم، ويستفرغ همَّه في ذلك، لا لإعزاز الأقوى وإذلال الأضعف، ولكن للارتفاع بالأضعف إلى الأقوى.
وفَرْقُ ما بين شريعته وشرائع القوة أن هذه إنما هي قوة سيادة الطبيعة وتحكُّمها، أما هو فقوة سيادة الفضيلة وتغلُّبها، وتلك تعمل للتفريق، وهو يعمل للمساواةِ، وسيادةُ الطبيعة وعملها للتفريق هما أساس العبودية، وغلبة الفضيلة وعملُها للمساواة هما أعظم وسائل الحرية.
ومن هنا كان طبيعياً في الإسلام ما جاء به من أنه لا فضيلة إلا وهو يطبع عليها صورةَ الجنة بنعيمها الخالد، ولا رذيلةَ إلا وهو يضع عليها صورة النار الأبدية وَقُودُها الناس والحجارة؛ فلا تنظرُ العينُ المسلمة إلى أسباب الحياة نظرةَ الفكر المنازع: يحرص على ما يكون له، ويَشْرَهُ إلى ما ليس له، ويمكُرُ الحيلةَ، ويبدعُ وسائلَ الخداع، ويزيدُ بكل ذلك في تعقيد الدنيا.
بل نظرة القلب المسالم: يخْلع الدنيا ويسخو بكل مضنون فيها؛ فيعفُّ عن كثير، ويعرف الإنسانية ويطمع في غاياتها العليا؛ فيعفو عن كثير، ويُدرك أن الحلال -وإنْ حلَّ- فوراءه حسابه، وأن الحرامَ -وإن غرَّ- ليس إلا تعلُّلُ ساعة ذاهبة ثم من ورائه عقاب الأبد.
ويخرج من ذلك أن يكون أكبرُ أغراض الإسلام هو أن يجعلَ من خشية الله تعالى قانونَ وجود الإنسان على الأرض؛ فمن أي عِطْفَيْهِ التفتَ هذا الإنسان وجد على يمنته ويَسرته مَلَكين من ملائكة الله يكتبان أعمالَه بخيرها وشرها.
وإذا قامت هذه المحكمة الملائكية وتقررت في اعتبار النفس، قام منها على النفس شرعٌ نافذٌ هو قانون الإرادة المميِّزة، تُريد الحسنات وتعملُ لها، وتخشَى السيئات وتنفرُ منها، فإذا معاني الجسد يحكم بعضها بعضاً، لا لتحقيق الحكومة والسلطة، ولكن لتحقيق الخير والمصلحة، وإذا نواميس الطبيعة المجنونة في هذا الحيوان قد نهضتْ إلى جانبها نواميسُ الإرادة الحكيمة في الإنسان، وإذا كل صغيرة وكبيرة في النفس هي من صاحبها مادةُ تُهْمَةٍ عند قاضيها في محكمتها، وإذا كلُّ ما في الإنسان وما حولَ الإنسان لا يُراد منه إلا سلامُ النفس في عاقبتها، وإذا معنى السلام هو المعنى الغالبُ المتصرِّفُ بالإنسانية في دنياها.
وكلُّ أعمال الإسلام وأخلاقِه وآدابه فتلك هي غايتها، وهذه هي فلسفتها، لا يقررها للإنسانية حَسْبُ، بل يغرسها في الوراثة غرساً بالاعتياد والمران الدائم؛ لتكون علماً وعملاً، فتمكِّنَ لسلام النفس بين الأسلحة المسدَّدة إليها من ضرورات الحياة، في أيدي الأعادي المتألِّبة عليها من شهوات الغريزة.
فليس يعمُّ السلام إلا إذا عمَّ هذا الدين بأخلاقه فشمَلَ الأرض أو أكثَرَها؛ فإن قانون العالم حينئذ يصبح منتزَعاً من طبيعة التراحم، فإمَّا انتسخَ به قانونُ التنازع الطبيعي، وإما كسَرَ من شرَّته، ويُولد المولود يومئذ، وتولدُ معه الأخلاق الإنسانية.
تقرير معنى الدوام لكل أعمال النفس حتى مثقال الذرة من الخير والشر، وضبط ذلك برياضةٍ عملية دائمة مفروضة على الناس جميعاً _ هذا هو أساس العقيدة الإسلامية، ولا صلاحَ للإنسانية بغيره يردها إلى سبيل قصدها؛ فإن من ذلك تكون الصفة العقلية التي تغلِبُ على المجتمع، وتُجانس بين أفراده، فتوجِّه الإنسانيةَ كلَّها نحو الممكن من كمالها، ولا تزال توجهها نحو ما هو أعلى، وتحكم فاسدها بصالحها، وتأخذ عاصيها بمطيعها، فيصبح المرء _ وهذا دينُه _ كلما تقدم به العمر كَمُلَ فيه اثنان: الإنسان والشريعة، ولا يعودُ طالب السعادة النفسية في الدنيا كالمجنون يجري وراء ظله؛ ليُمْسِكه، فلا يدرك في الآخر شيئاً غيرَ معرفته أنه كان في عمل باطل، وسعي ضائع.
والإسلام يحرص أشد الحرص وأبلَغَه على تقرير ذلك المعنى الإلهي العظيم، لا بالمنطق، ولكن بالعمل، ثم في النفس وعواطفِها، لا في العقل وآرائه، ثم على وجه التعميم، دون الاستثناء والخصوص، وذلك هو سرُّ مشقَّته على النفس بما يفرضه عليها؛ فإن فلسفته أن هذا النفسَ هي أساسُ العالم، وأن النظامَ الخلُقيَّ هو أساسُ النفس، وأن العمل الدائم هو أساس النظام، وأن روح العمل الدائم تكون فيما يشقُّ بعضَ المشقة ولا يبلغ العُسر والحرج كما تكون فيما يَسْهُلُ بعضَ السهولة ولا يبلغ الكَسَل والإهمال.
وللنفس وجهان: ما تُعلن، وما تسرّ، ولا صدقَ لإعلانها حتى يصدقَ ضميرها، ولا صلاحَ لجهرها حتى يصلُحَ السرُّ فيها، ولا يكون الإنسان الاجتماعي فاضلاً بمشهده حتى يكون كذلك بغيْبِه.