ذكرنا في المقال السابق أن معرفة الأدوار المنوطة بنا تعيننا على التحرك الواعي الفعال والمؤثر في اقترابنا خطوات من أجل التحرير والتمكين، وسنذكر في هذا المقال مجموعة من الأدوار المقترحة التي تتعلق بالفرد خاصة، وأما ما يتعلق بالمؤسسات الأهلية والرسمية فلعلنا نخصص لهما مقالا آخر في وقت لاحق حتى لا يسأم القارئ من طول المقالة، وسنذكر هنا أدواراً تتعلق بالفرد تتسم هذه الأدوار بالكلية ويمكن تسميتها «أمهات الواجبات في نصرة المسجد الأقصى»، وسأكتفي بذكر خمسة أدوار.
أهمية دور الفرد في نصرة «الأقصى»
نظراً لأن الإنسان سيسأل عن عمله يوم القيامة باعتباره فرداً لا جزءاً من عائلة أو جماعة أو مؤسسة، قال تعالى: (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (مريم: 95)، فهو سيسأل عن جهده الخاص الذي بذله لإصلاح نفسه ولإصلاح المجتمع ولنصرة المظلومين وإعلاء كلمة الله في الأرض، فكل نفس مرتهنة بما كسبت وعملت من خير أو شر، قال تعالى: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور: 21)، فمسؤولية تحرير المسجد الأقصى ونصرته هي مسؤولية فردية وجماعية، ويكون الدور المنوط بكل فرد بحسب قدراته ووسعه؛ إذ (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة: 286)، ولنعلم أن بوسعنا الكثير، وأننا لم نستفرغ وسعنا بعد في بذل ما يمكن نصرة لمسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا يدفعنا دفعاً للبحث في أغوار أنفسنا لاستفزاز طاقاتنا الكامنة، ومن ثم تفجيرها في ميادين العمل وما أكثرها.
خماسية النصرة:
أولاً: الأخذ بأسباب القوة على صعيد الفرد الخاص، والقوة هنا معناها عام يشمل كل أنواعها، وعلى رأسها القوة الإيمانية؛ إذ لا يعقل أن نزعم الشوق إلى الصلاة في المسجد الأقصى المبارك ونحن لا نصلي في مسجد الحي الذي عند بيتنا، فإن الله تعالى لا يستعمل للقضايا العظيمة إلا عباد الرحمن الذين ذكر صفاتهم في القرآن، وتشمل القوة أيضاً: القوة البدنية، والعلمية، والاقتصادية، ونحو ذلك من أسباب القوة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» (رواه مسلم)، إن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله، لأنه ينتج ويعمل للمسلمين، وينتفع المسلمون بقوته نفعًا عظيمًا خاصة في ميادين الجهاد في سبيل الله بمفهوم الجهاد الواسع، وهو الأكثر نفعا في تحقيق مصالح المسلمين، وفي الدفاع عن الإسلام والمسلمين، وإذلال الأعداء والوقوف في وجوههم، وهذا ما لا يملكه المؤمن الضعيف، فمن هذا الوجه كان المؤمن القوي خيرًا من المؤمن الضعيف، ونستحضر هنا قول الحق تبارك وتعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60)، وهذا الإعداد مطلوب على صعيد الفرد والجماعة على حد سواء، وقال الله تعالى في حق المنافقين: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: 46)، قال الطبري: «أي لو أرادوا الجهاد لتأهبوا أهبة السفر، فتركهم الاستعداد دليل على إرادتهم التخلف»، إن على المؤمن أن يحدث نفسه دائماً بالغزو والجهاد في سبيل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن ماتَ ولَمْ يَغْزُ، ولَمْ يُحَدِّثْ به نَفْسَهُ، ماتَ علَى شُعْبَةٍ مِن نِفاقٍ» (رواه مسلم)، ومن حدث نفسه استعد نفسياً وبدنياً وعلمياً ومالياً، حتى يصبح قوياً جاهزاً إذا قيل: يا خيل الله اركبي؛ قال بلا تردد: لبيك.
ثانياً: إبقاء قضية المسجد الأقصى حية في نفسه وفي أهل بيته ومجتمعه، فمن أحب شيئاً ذكره باستمرار، وهنا نذكر بعض الوسائل المفيدة لتحقيق ذلك: كأن يعلق صورة للمسجد الأقصى في بيته، ويحدث أهله عن الأخطار التي تتهدده، ماذا لو علقت لوحات مختلفة للمسجد الأقصى في كل فصل دراسي؟ إن ذلك سيبقي هذه القضية حية في نفوس أولادنا، وحبذا لو كانت هدايانا في المناسبات تتعلق بذكر المسجد الأقصى كمجسم للمسجد مثلاً أو زيت من زيتون المسجد الأقصى، المهم أن يبقى رسم المسجد حاضراً ماثلاً أمام جميع المسلمين يذكرهم بأنه ما زال أسيراً تحت الاحتلال فيحفزهم للعمل على استنقاذه، ومن ذلك المشاركة في الأنشطة والفعاليات التي تقام نصرة للمسجد الأقصى، من معارض ومحاضرات ومسيرات تأييد أو احتجاج ونحو ذلك من أنشطة، وإن للإعلام أثراً كبيراً في نشر الثقافة العامة في المجتمع، ومن هنا تبرز أهمية استثمار وسائل التواصل الحديثة (الإعلام البديل) وتغذية هذه الوسائل ببيان أخطار تهويد بيت المقدس واقتحامات العدو المتكررة للمسجد الأقصى، واستعمال الصورة المؤثرة والنشر بمختلف اللغات الحية، فكل فرد الآن يمتلك على الأقل ثلاث منصات إلكترونية، فلو استثمرناها كلها بمشاركة واحدة يومياً على الأقل لانتشر الوعي الذي هو أول الطريق إلى التحرير.
ثالثاً: المشاركة بإحدى مؤسسات المجتمع المدني العاملة لنصرة «الأقصى»، فالبركة في العمل الجماعي أكبر وأثرى، وعلى الفرد أن ينتقي من المؤسسات ما يناسب مواهبه وقدراته الفنية ومهاراته، وهناك العديد من المؤسسات في مختلف المجالات ولله الحمد، وأذكر منها، على سبيل المثال: برلمانيون من أجل القدس، شباب من أجل القدس، القدس أمانتي، الائتلاف العالمي لنصرة القدس وفلسطين، المؤسسات التي تعمل لمحاربة التطبيع، المؤسسات القانونية الناشطة في مجال حقوق الإنسان وفي رفع الدعاوى القانونية على الكيان الصهيوني، والمؤسسات العاملة في مجال المال والاقتصاد المناصرة للقدس والمسجد الأقصى، ومؤسسات العمل الخيري والإغاثي، والقائمة طويلة، فيسع الفرد أن يختار إحدى هذه المؤسسات في بلده وينخرط فيها، وإن لم يوجد فإن هناك العديد المؤسسات التي تعمل افتراضياً عبر شبكة الإنترنت، والله تعالى حثنا على التعاون فيما بيننا بالمعروف حيث قال: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ) (المائدة: 2)، وقال عز وجل مبيناً وجوب مقاتلة أعدائنا مجتمعين كما يقاتلوننا مجتمعين: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) (التوبة: 36)، فالعمل الجماعي ضرورة لا بد منها إذا أردنا النجاح.
رابعاً: ورد الدعاء لـ«الأقصى»، وهو سلاح فعال قلّ ما نستعمله –مع الأسف- وأقترح في هذا الخصوص أن نجعل لأنفسنا ورداً يومياً في الدعاء (ولا بأس أن ننشر نصاً لهذا الدعاء ونعممه على جميع المسلمين بمختلف اللغات) نضمّن فيه ذكر «الأقصى»، سائلين الله تعالى تثبيت المرابطين فيه والمجاهدين، وأن يستعملنا لتحريره، نجهر بالدعاء تارة ونسر أخرى، يؤمّن أهل بيتنا معنا، ولا يتركه خطباء المنابر فيذكرونه في دعائهم في كل خطبة، وقال ربنا مبيناً حتمية استجابة الدعاء: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60)، وقال: (وإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186).
خامساً: دينار «الأقصى»، ما أحسن أن يخصص كل فرد منا مبلغاً مالياً شهرياً وإن قلّ نسميه «دينار الأقصى»، وهذا ليس من باب الصدقات النافلة والتطوع، بل هو من باب الجهاد الواجب بالمال، وعلى الآباء والأمهات والمعلمين والمربين حث أولادهم وطلابهم على المشاركة في ذلك، فالصدقة برهان على صدق الإيمان، وهكذا يرتبط كل مسلم بمسرى نبيه صلى الله عليه وسلم، ويبذل منتهى وسعه، فإن كان القتال فرض كفاية وتقديم النفس في سبيل الله أغلى وأشرف، فإن الجهاد بالمال أنفع وأكثر وهو فرض عين على كل قادر بحسب وسعه، والنصوص من الكتاب والسُّنة كثيرة في هذا الباب نكتفي منها في هذا المقام بآية وحديث، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات: 15)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ» (رواه أبو داود).
وبعد، فهذه خماسية كلية لنصرة «الأقصى»، جعلتها كعناوين يمكن أن يندرج تحتها العديد من آليات تطبيقها، ويحسن بنا أن نذكر في الختام أن فضيلة الشيخ د. سلمان العودة قد جمع بعض طلابه في مجموعات وطلب منهم أن يتفاكروا كيف ينصرون «الأقصى»، فخرجوا بمائة وخمسين وسيلة لنصرته، جمعها في كتيب وهو مطبوع ويمكن تحميله من الشبكة العنكبوتية، والشاهد أننا نستطيع أن نفعل الكثير لكننا نحتاج إلى التذكير، والذكرى للمؤمنين نافعة، ومن باب التواصي بالحق نقترح على الأندية الشبابية والمدارس الخاصة والحكومية أن تقوم بهذه التجربة فتجري ورشات عمل للخروج بأفكار عملية لنصرة «الأقصى».
اللهم استعملنا في طاعتك واجعلنا من جنود تحرير مسرى نبيك صلى الله عليه وسلم.