منذ قرابة العقدين ووسائل ومواقع التواصل الاجتماعي تعيد صياغة الحياة الإنسانية بشكل شبه جذري، وتعيد إنتاج إنسانٍ مختلف في قيمه وأخلاقه وسلوكياته، ونمط معيشته، ونومه ويقظته، وطرق اكتسابه للمعرفة، وتعبيره عن ذاته وهويته، ومع هذا التغول الرقمي على الحياة الإنسانية، تظهر انحرافات وسلوكيات شاذة.
التغول على الحياة الإنسانية
رغم أن العام 2004 كانت بداية الظهور لوسائل التواصل الاجتماعي، فإنه خلال العقدين اللاحقين، استقطبت إليها 4.26 مليارات شخص حول العالم ليكونوا من روادها، ويشكل هؤلاء 58.4% من سكان الأرض، و75% من هؤلاء يزيد عمرهم على 13 عاماً.
وتشير إحصاءات أن الشخص يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي 2.5 ساعة على الأقل يومياً؛ أي أنها تستحوذ يومياً من عمر الإنسان على 11.5 مليار ساعة، ويمتلك الشخص 6 حسابات على الأقل على منصات اجتماعية، فـ93% ممن يستخدمون الإنترنت عالمياً هم رواد لمواقع التواصل الاجتماعي.
لكن الأخطر هو ما أكدته دراسة حديثة؛ إذ قدرت أن الإنسان يقضي 5 سنوات و4 أشهر من عمره على وسائل التواصل الاجتماعي؛ أي 7.3% من عمره، وهو ما يفوق الوقت المخصص للطعام والشراب، ونظراً لذلك فقد تنبهت شركات الإعلان لهذه الساحة الإعلانية الهائلة، فوصل الإنفاق الإعلاني العالمي فيها 134 مليار دولار.
غياب المعيارية
ولكن لماذا هذه الأرقام، وما علاقتها بالمخاوف أن تتحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحة لنشر الانحرافات الفكرية، وتذويب القيم الأخلاقية، والعدوان على السلوك القويم؟
المشكلة الكبرى في مواقع التواصل الاجتماعي أنها أدت إلى تغيرات عميقة في مفهوم المعيارية، تلك المعيارية التي تحول دون الانحرافات وخاصة في جانبها الفكري، فتلك الوسائل خلقت أنماطاً جديدة من التواصل، وبات السلوك البشري خاضعاً للتغير والتأثر بفعل تلك التكنولوجيا المتنامية.
والحقيقة أن وسائل التواصل الاجتماعي الوسيلة الأكثر فاعلية لنشر المعلومات جماهيرياً؛ وهو ما يجعل خطرها مخيفاً في حال انحرافها، إذ إنها تستقطب عشرات؛ بل مئات الملايين من البشر، وستصل إليهم بسهولة، كذلك تستغرق من عمرهم الكثير، ووفق دراسات الرقمية، فإن هناك 5 أسباب أساسية تدفع الأشخاص للمشاركة على الإنترنت، وهي: الحصول على محتوى ومعلومات، والإحساس بالمشاركة مع العالم المحيط، وتحديد الهوية الشخصية، والترفيه، ويلاحظ أن وسائل التواصل الاجتماعي تحقق هذه الأهداف الخمسة الكبرى.
والمعيارية مفهوم اختص به الإنسان، ويتعلق بتصنيف الأفعال والسلوك والنتائج والحكم على صحتها أو فسادها، أو أنها جيدة أو مرغوبة أو غير مرغوب فيها، وفق مجموعة من المحددات، وغالباً ما ترتبط المعيارية بالجانب الأخلاقي والديني، إذ إن المعيار غالباً ما يكون من خارج إطار الذات، كما يتسم بالجماعية، أي أن الجماعة توافقت عليه، وارتضت به.
وفي عالم وسائل التواصل الاجتماعي تعد بعض القضايا المعيارية من المسائل التي تُثار حولها النقاشات والاختلافات، مثل: مسألة الخصوصية، والشفافية، والأمان، والرقابة، والمسؤولية، وتلك معضلات كبرى لم يُحسم الموقف منها عالمياً، بين قوى راغبة في إطلاق العنان لكل شخص ليفعل ما يريد، وينشر ما يشاء، وبين اتجاهات تؤمن بالمسؤولية الأخلاقية، وتدعو لإيجاد قدر من القيم والمحددات الواجب مراعاتها، حتى لا يتدهور ويتردى الإنسان أخلاقياً، وقيمياً، فتُفقد السيطرة على الرغبات الجامحة.
تثبت الدراسات أن السلوك البشري يتغير عند استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ومن ثم فكلما زاد الاستخدام اليومي والتفاعل؛ كان التغير والتأثر كبيراً، وإذا كان الشخص يظن أنه باستخدامه لوسائل التواصل الاجتماعي، أنه لا يدفع شيئاً مقابل الحصول على مميزاتها، فإن الحقيقة التسويقية الخافية هي أن الشخص نفسه تحول إلى سلعة.
هذه الحقيقة الواقعية تعني أن هناك نهماً لدى الراغبين في الثراء لزيادة الأشخاص الذين يتابعون صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ويميل هؤلاء الراغبون في الثراء إلى الخروج عن المألوف، وإلهاب الغرائز، وزيادة جرعات الشهوات، والعدوان على المقدسات، من أجل الحصول على المتابعين، الذين يتحولون إلى مكاسب مالية.
وتلك الحالة تدفع إلى تنامي الانحرافات الفكرية والسلوكية، التي تبدأ بمجموعة من راغبي المال، ثم تتحول إلى تقليد يساهم فيه الملايين من خلال «عدوى» الكسب السريع، ولعل هذا ما جعل وسائل التواصل الاجتماعي في بعض الأحيان ساحة للإساءة والعدوان على خصوصيات الآخرين وكرامتهم.
فمثلاً، أظهرت الدراسات أن الألعاب العنيفة على وسائل التواصل الاجتماعي تؤدي إلى زيادة الميول والسلوكيات العنيفة، كما أن وسائل التواصل أصبحت مع البعض أداة لنشر الشائعات؛ لأن الأخبار السيئة تتحصل على نسب مشاهدة ومشاركة عالية، وهو ما يؤدي إلى مشكلات نفسية، فمثلاً خطورة الجرائم البشعة، وتسليط الاهتمام الكثيف حولها، فإن هذا يعطي انطباعاً بأن الخير يتقلص في المجتمعات لصالح الرذائل، فتضعف عزيمة الشخص عن مقاومة المنكرات، وتضعف همته الإصلاحية، فيتولد اليأس الذي ترتكز عليه غالبية الانحرافات الفكرية.
وأشارت دراسة حديثة إلى أن الأشخاص الذين يعانون من مشكلات نفسية وقلق يلجؤون إلى وسائل التواصل الاجتماعي للتخفيف من معاناتهم والحصول على الدعم النفسي، لكن الخطير الذي أشارت إليه الدراسة أن ذلك قد لا يتحقق في بعض الأحيان، إذ تُعمق وسائل التواصل التجارب والخبرات السلبية؛ مما يؤثر على الصحة النفسية والعقلية للمستخدمين، ويدفع بعضهم خاصة الشباب لتعاطي المسكرات والمخدرات.
ويلاحظ أن الكثير من رواد التواصل الاجتماعي ينشر مشاهد مبهرة لحياته، وملابسه وجسده، وتنزهاته ورحلاته، وهذا يدفع الكثير الى المقارنة، وقد ربطت دراسات بين وسائل التواصل الاجتماعي وتزايد مستويات الاكتئاب والقلق، خاصة أن العديد من المستخدمين يميلون إلى نشر أفضل صورهم، دون إظهار صورة دقيقة لحياتهم الواقعية، وفي كثير من الأحيان يتنامى سخط الشخص على جسده ووجهه وحاله، وهو ما قد يدفع إلى الجريمة، أو نمو الأمراض النفسية الأخلاقية كالحقد والحسد والكذب.
وتؤكد دراسة نمو ثقافة المقارنة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذه الثقافة قد تتسبب في الانحرافات وإلحاق الأذى بالنفس من خلال الانتحار، والسبب يرجع إلى ما يسمى بـ«تآكل احترام الذات»؛ إذ يشعر الإنسان بالسخط على ذاته، ولا يتقبلها، وقد يرى أن الحل في التخلص من علاقته بها بالانتحار، وما يزيد من مأزق ثقافة المقارنة ظهور التنمر، والسخرية من الآخرين، ونمو ثقافة المُعايرة والسخرية، حيث تؤكد الدراسات النفسية أن المراهقين تحديداً يعانون من ضغط الأقران على وسائل التواصل الاجتماعي.
والمعروف أن الأشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي أقل ذاتية في تحصيل المعرفة والمعلومات، وأكثر نقلاً لها من خلال المشاركات الواسعة؛ ما يعني أن الشخص قد يكون مساهماً في نقل الانحرافات والشائعات دون أن يكون واعياً بأفعاله وأخطارها، إذ إن الشخص على مواقع التواصل الاجتماعي يربط بين المصداقية وعدد الإعجابات والمشاركات، ولا ينظر إلى صحة الخبر والمعلومة ومصدرها، ومعايير الحكم على صحتها وقيمتها؛ وهو ما يسهل انتشار الانحرافات والسلوكيات الضارة والشاذة.
وأخيراً، فإن وسائل التواصل الاجتماعي تعمل مثل العدسة المكبرة، بتركيزها على جوانب السلوك البشري وتعزيزها، فهي بوتقة صاخبة للسلوكيات الاجتماعية البناءة والمدمرة.