لم تكن شهرة قصيدة «البردة» وصاحبها كعب بن زهير لجودتها الفنية في السياق الأدبي فقط، وإنما لما حملته السردية التاريخية لها من لطائف ودلالات عظيمة في السيرة النبوية وما بعدها، فكعب بن زهير الشاعر الجاهلي الذي هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه معتذراً مسلماً يطلب العفو، وهذه الحال تنسحب على كل الجزيرة العربية إيذاناً بإحكام فرض الإسلام هيمنته على القلوب والعباد فيقول كعب:
لَقَد أَقومُ مَقاماً لَو يَقومُ بِهِ أَرى وَأَسمَعُ ما لَو يَسمَعُ الفيلُ
لَظَلَّ يُرعَدُ إِلّا أَن يَكونَ لَهُ مِنَ الرَسولِ بِإِذنِ اللَهِ تَنويلُ
أثنى كعب في القصيدة على رسول الله والدين الإسلامي، وطعم قصيدته بالحِكَم التي ترنو إلى الزهد واليقين بوعد الآخرة، والعجيب كيف أتى ابن زهير بهذه المعاني الدقيقة وهو الذي لم يسلم بعد، وإن دل ذلك على شيء فهو يدل على أن الإسلام فطرة في النفوس البشرية إذا زالت عنها الأخلاط ورواسب الجاهليات الدخيلة.
كُلُ اِبنِ أُنثى وَإِن طالَت سَلامَتُهُ يَوماً عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمولُ
أُنبِئتُ أَنَّ رَسولَ اللَهِ أَوعَدَني وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللَهِ مَأمولُ
ومن لطائف «البردة» أنها ككل قصائد الشعر الجاهلي تبدأ بالغزل، ولا تخلو من الفخر والهجاء والبكاء على الأطلال، وكثير من الحكمة، وهنا عندما دخل كعب بن زهير مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ الشاعر قصيدته «بانت سعاد» في اثنين وثلاثين بيتاً من الغزل، إلى أن وصل إلى الاعتذار والثناء على الإسلام والصحب الكريم، وقد تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم منه هذا في إنصات الكريم المجل المشفق العزيز الرحيم الرفيق الشفيق، دون أن يوقفه أو يسفه منه أو يعاجله القصاص، ولكنه صلى الله عليه وسلم صبر عليه حتى انتهى وكافأه ببردته الشريفة التي صنعت رمزية ابن زهير التاريخية.
ولنضع بين يدي القارئ الكريم القصيدة التي تكرمت بمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سار على نهجها الشعراء منذ سنوات الإسلام الأولى:
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ
مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُجزَ مَكبولُ
وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا
إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ
هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً
لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ
تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ إِذا اِبتَسَمَت
كَأَنَّهُ مُنهَلٌ بِالراحِ مَعلولُ
شُجَّت بِذي شَبَمٍ مِن ماءِ مَحنِيَةٍ
صافٍ بِأَبطَحَ أَضحى وَهُوَ مَشمولُ
تَجلو الرِياحُ القَذى عَنُه وَأَفرَطَهُ
مِن صَوبِ سارِيَةٍ بيضٍ يَعاليلُ
يا وَيحَها خُلَّةً لَو أَنَّها صَدَقَت
ما وَعَدَت أَو لَو أَنَّ النُصحَ مَقبولُ
لَكِنَّها خُلَّةٌ قَد سيطَ مِن دَمِها
فَجعٌ وَوَلعٌ وَإِخلافٌ وَتَبديلُ
فَما تَدومُ عَلى حالٍ تَكونُ بِها
كَما تَلَوَّنُ في أَثوابِها الغولُ
وَما تَمَسَّكُ بِالوَصلِ الَّذي زَعَمَت
إِلّا كَما تُمسِكُ الماءَ الغَرابيلُ
كَانَت مَواعيدُ عُرقوبٍ لَها مَثَلاً
وَما مَواعيدُها إِلّا الأَباطيلُ
أَرجو وَآمُلُ أَن يَعجَلنَ في أَبَدٍ
وَما لَهُنَّ طِوالَ الدَهرِ تَعجيلُ
فَلا يَغُرَّنَكَ ما مَنَّت وَما وَعَدَت
إِنَّ الأَمانِيَ وَالأَحلامَ تَضليلُ
أَمسَت سُعادُ بِأَرضٍ لا يُبَلِّغُها
إِلّا العِتاقُ النَجيباتُ المَراسيلُ
وَلَن يُبَلِّغها إِلّا عُذافِرَةٌ
فيها عَلى الأَينِ إِرقالٌ وَتَبغيلُ
مِن كُلِّ نَضّاخَةِ الذِفرى إِذا عَرِقَت
عُرضَتُها طامِسُ الأَعلامِ مَجهولُ
تَرمي الغُيوبَ بِعَينَي مُفرَدٍ لَهَقٍ
إِذا تَوَقَدَتِ الحُزّانُ وَالميلُ
ضَخمٌ مُقَلَّدُها فَعَمٌ مُقَيَّدُها
في خَلقِها عَن بَناتِ الفَحلِ تَفضيلُ
حَرفٌ أَخوها أَبوها مِن مُهَجَّنَةٍ
وَعَمُّها خَالُها قَوداءُ شِمليلُ
يَمشي القُرادُ عَلَيها ثُمَّ يُزلِقُهُ
مِنها لَبانٌ وَأَقرابٌ زَهاليلُ
عَيرانَةٌ قُذِفَت في اللَحمِ عَن عُرُضٍ
مِرفَقُها عَن بَناتِ الزورِ مَفتولُ
كَأَنَّ ما فاتَ عَينَيها وَمَذبَحَها
مِن خَطمِها وَمِن اللَحيَينِ بَرطيلُ
تَمُرُّ مِثلَ عَسيبِ النَخلِ ذا خُصَلٍ
في غارِزٍ لَم تَخَوَّنَهُ الأَحاليلُ
قَنواءُ في حُرَّتَيها لِلبَصيرِ بِها
عِتقٌ مُبينٌ وَفي الخَدَّينِ تَسهيلُ
تَخدي عَلى يَسَراتٍ وَهيَ لاحِقَةٌ
ذَوابِلٌ وَقعُهُنُّ الأَرضَ تَحليلُ
سُمرُ العُجاياتِ يَترُكنَ الحَصى زِيَماً
لَم يَقِهِنَّ رُؤوسَ الأُكُمِ تَنعيلُ
يَوماً يَظَلُّ بِهِ الحَرباءُ مُصطَخِماً
كَأَنَّ ضاحِيَهُ بِالنارِ مَملولُ
كَأَنَّ أَوبَ ذِراعَيها وَقَد عَرِقَت
وَقَد تَلَفَّعَ بِالقورِ العَساقيلُ
وَقالَ لِلقَومِ حاديهِم وَقَد جَعَلَت
وُرقُ الجَنادِبِ يَركُضنَ الحَصى قيلوا
شَدَّ النهارُ ذِراعاً عَيطلٍ نَصَفٍ
قامَت فَجاوَبَها نُكدٌ مَثاكيلُ
نَوّاحَةٌ رَخوَةُ الضَبعَين لَيسَ لَها
لَمّا نَعى بِكرَها الناعونَ مَعقولُ
تَفِري اللِبانَ بِكَفَّيها وَمِدرَعِها
مُشَقَّقٌ عَن تَراقيها رَعابيلُ
يَسعى الوُشاةُ بِجَنبَيها وَقَولُهُم
إِنَّكَ يَا بنَ أَبي سُلمى لَمَقتولُ
وَقالَ كُلُّ خَليلٍ كُنتُ آمُلُهُ
لا أُلفِيَنَّكَ إِنّي عَنكَ مَشغولُ
فَقُلتُ خَلّوا طَريقي لا أَبا لَكُمُ
فَكُلُّ ما قَدَّرَ الرَحمَنُ مَفعولُ
كُلُ اِبنِ أُنثى وَإِن طالَت سَلامَتُهُ
يَوماً عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمولُ
أُنبِئتُ أَنَّ رَسولَ اللَهِ أَوعَدَني
وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللَهِ مَأمولُ
مَهلاً هَداكَ الَّذي أَعطاكَ نافِلَةَ ال
قُرآنِ فيها مَواعيظٌ وَتَفصيلُ
لا تَأَخُذَنّي بِأَقوالِ الوُشاةِ وَلَم
أُذِنب وَلَو كَثُرَت عَنّي الأَقاويلُ
لَقَد أَقومُ مَقاماً لَو يَقومُ بِهِ
أَرى وَأَسمَعُ ما لَو يَسمَعُ الفيلُ
لَظَلَّ يُرعَدُ إِلّا أَن يَكونَ لَهُ
مِنَ الرَسولِ بِإِذنِ اللَهِ تَنويلُ
مازِلتُ أَقتَطِعُ البَيداءَ مُدَّرِعاً
جُنحَ الظَلامِ وَثَوبُ اللَيلِ مَسبولُ
حَتّى وَضَعتُ يَميني لا أُنازِعُهُ
في كَفِّ ذي نَقِماتٍ قيلُهُ القيلُ
لَذاكَ أَهَيبُ عِندي إِذ أُكَلِّمُهُ
وَقيلَ إِنَّكَ مَسبورٌ وَمَسؤولُ
مِن ضَيغَمٍ مِن ضِراءَ الأُسدِ مُخدِرَةً
بِبَطنِ عَثَّرَ غيلٌ دونَهُ غيلُ
يَغدو فَيَلحَمُ ضِرغامَين عَيشُهُما
لَحمٌ مِنَ القَومِ مَعفورٌ خَراذيلُ
إذا يُساوِرُ قِرناً لا يَحِلُّ لَهُ
أَن يَترُكَ القِرنَ إِلّا وَهُوَ مَفلولُ
مِنهُ تَظَلُّ حَميرُ الوَحشِ ضامِرَةً
وَلا تُمَشّي بِواديهِ الأَراجيلُ
وَلا يَزالُ بِواديِهِ أخَو ثِقَةٍ
مُطَرَّحُ البَزِّ وَالدَرسانِ مَأكولُ
إِنَّ الرَسولَ لَسَيفٌ يُستَضاءُ بِهِ
مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللَهِ مَسلولُ
في عُصبَةٍ مِن قُرَيشٍ قالَ قائِلُهُم
بِبَطنِ مَكَّةَ لَمّا أَسَلَموا زولوا
زَالوا فَمازالَ أَنكاسٌ وَلا كُشُفٌ
عِندَ اللِقاءِ وَلا ميلٌ مَعازيلُ
شُمُّ العَرانينِ أَبطالٌ لَبوسُهُمُ
مِن نَسجِ داوُدَ في الهَيجا سَرابيلُ
بيضٌ سَوابِغُ قَد شُكَّت لَها حَلَقٌ
كَأَنَّها حَلَقُ القَفعاءِ مَجدولُ
يَمشون مَشيَ الجِمالِ الزُهرِ يَعصِمُهُم
ضَربٌ إِذا عَرَّدَ السودُ التَنابيلُ
لا يَفرَحونَ إِذا نالَت رِماحُهُمُ
قَوماً وَلَيسوا مَجازيعاً إِذا نيلوا
لا يَقَعُ الطَعنُ إِلّا في نُحورِهِمُ
ما إِن لَهُم عَن حِياضِ المَوتِ تَهليلُ