أستاذي الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إني في حيرة من أمري؛ هل جزاء من يُقلع عن الخطأ ويحاول أن يقوّم نفسه أن يجد من الصعاب ما يشقّ عليه الطريق؟! هل جزاء من يحاول أن يرضي زوجته ويحسن إليها بعد إساءة، أن تشكك في نواياه وتتوجس منه؟! هل جزاء من يبذل جهده لحسن تواصله مع زوجته ويعوضها خيراً عن فترة من الشقاق أن تتيبَّس مشاعرها تجاهه؟! العديد من التساؤلات تتزاحم في رأسي ولا أجد عنها إجابة غير أنها تدفعني إلى العودة إلى الاهتمام بذاتي فقط!
نشأت طفلاً مدللاً، فأنا الابن الأصغر والوحيد لوالدي، ولي من الأخوات ستّ، وقد توفي قبلي أخوان، وكم كانت الفرحة بي غامرة خوفاً على ميراث أبي، كذلك الفرحة عمت عائلة أمي لأنها الوحيدة التي أهدت أبويها حفدة، أما عن عائلة والدي ففرحتهم بمولدي كانت جمة؛ حيث كان لوالدي أربع أخوات، فأنا الوحيد الذي سيورث اسم العائلة! فأينما ذهبت فالكل يسعى لإسعادي وإرضائي.
لم أعرف طعم العطاء أو تحمل المسؤولية غير المذاكرة، ومع الدراسة في أفضل المدارس والمدرسين الخصوصيين، والتبرعات والهدايا للمدرسة، كنت متفوقاً ومحط تقدير ورعاية خاصة من المدرسين، أما عن أصدقائي فكان بيتي هو المتسع، وكانوا يلقون كل الترحيب وكرم الضيافة وبالطبع أثَّر ذلك على علاقتي مع قرنائي منذ الصغر؛ فرأيي هو الأصح وصحبتي مغنم.
تخرجت وبدأت أساعد أبي في إدارة شركاته، وكلَّف عدداً من أكفأ المديرين لتدريبي، وكنت سعيداً جداً بالحفاوة التي ألقاها من الموظفين، وكما تعودت منذ نعومة أظفاري!
الحمد لله تعالى، حققت نجاحاً ملحوظاً في العمل، وبعد حوالي سنتين بدأ أبي يقلل من تواجده بالعمل، معتمداً عليَّ؛ فازدادت مسؤولياتي وسلطاتي، وخلال خمس سنوات كنت تقريباً المدير لكل شركات والدي، صاحَبَ ذلك إلحاح والدتي عليَّ بالزواج، ولكن حبي للعمل ورغبتي في تطويره كان شاغلي الأول، مع ذلك فقد استجبت لبعض المحاولات، إلا أنها سرعان ما تفشل، إلى أن حدثتني والدتي عن إحدى صديقاتها لديها بنت حديثة التخرج وأوصتني بها خيراً، ألحقت الفتاة بفريق العمل الخاص بي، وكانت ممتازة مهنياً، بالإضافة إلى أنها خلوقة ومهذبة وتحسن التعامل، وشعرت بالانجذاب إليها، ولكني تجاهلت ذلك.
فوجئت بوالدتي تسألني: ما رأيك في صفاء؟ موظفة ممتازة.. قاطعتني قائلة: أقصد كفتاة، إنها من بيت طيب أحسن تربيتها، وكما تعلم أنا ووالدتها صديقتان من الجامعة.
تزوجنا، وكانت حقاً نِعْم الزوجة، أو بمعنى أدق زوجة في صورة أُم! من حيث الحنان والرعاية والمسؤولية، وأنا من جانبي لم أستطع التفرقة بين علاقة الأمومة وعلاقة الزوجية إلا فقط في الفراش! بمعنى مثلما كانت أمي تعتني بي كانت زوجتي، كنت حقاً طفلها المدلل مثلما كنت عند أمي، عودتني أن تعطي دون طلب مني أو انتظار مقابل، كل احتياجاتي حتى شراء ملابسي، وماذا أرتدي، حتى رعايتي الصحية هي التي تصر على ذهابي للطبيب وتقوم بالحجز.. أعود من عملي وهي في أبهى حُلة، ومائدة الطعام وكأني في فندق 7 نجوم، وإذا أشرت بعيني لشيء تسرع بتلبيته، رغم وجود الخادمة، فإنها كانت تتولى كل شيء يخصني.
ظلت الحال كذلك حتى حملت، وأثَّر ذلك على صحتها وبالطبع على عطائها! أحضرتُ لها ممرضة بالإضافة إلى الخادمة الخاصة بها، كنت مشغولاً بعملي، وهي التي تتصل لتطمئن عليَّ، وتطمئني عليها، الحمد لله رزقنا الله بابننا الأول، وخلال عشر سنوات كان لدينا ثلاثة أولاد، ومع ذلك ظلت علاقتنا طيبة، حتى عندما أخطئ تعفو –أو هكذا كنت أعتقد– ولا أعتذر وتتجاهل، واستمرت حياتنا في سعادة، إلا بعض الهفوات مني مع فيض من الحب والحنان منها.
ثم فوجئت بطلب منها أن نجلس معاً، وإذا بها امرأة أخرى! إنها ليست صفاء، بعد عشر سنوات تريد أن تتخلى عن واجباتها تجاهي! بحجة أن الحياة الزوجية مشاركة، وأن عليَّ أن أرعاها كما ترعاني، وأنها أعطت النموذج الذي تتمناه مني من خلال سلوكها معي! وأرسلت لي رسائل ضمنية تحثني على رعايتها، كما أنه قد تراكم عليها العديد من أخطائي ولم أعتذر أو أُقلع، وأنها كانت تُؤْثر التجاهل وغضّ الطرف؛ حباً لي وحتى لا تعكر صفو حياتنا، إلا أنني لم أعِ كل ذلك.
هل أنا مقصِّر؟ إن لديها ما يفوق حلم أي زوجة؛ لذا فقد أنهيتُ اللقاء دون أي تعليق، اعتبرتُ ما تقوله مجرد تنفيس من ضغوطات الأولاد، وتناسيت ما حدث وهي من جانبها استمرت دون أن تبدي أي كلل أو اعتراض، إلا أنني لاحظت نظرة حزن وانكسار، ورغم أنها لم تقصّر مطلقاً في التزاماتها تجاهي، فإنها لم تعد لديها الروح أو الحيوية والانطلاق، تضحك ولكنها ترسم الضحكة على شفتيها، تتزين للقائي ولكن مجرد دمية في فراشي، من منطلق أنانيتي وتعوّدي على الاهتمام باحتياجاتي تجاهلت ولم أعرها اهتماماً.
استمرت حالنا على ذلك حوالي خمس سنوات، إلى أن تعرضتُ لحادث ألزمني الفراش ستة أشهر، وكنت بحاجة إلى من يساعدني حتى في دورة المياه، وقد طلبت من ممرض أن يقيم معي، إلا أن زوجتي رفضت حتى لا تنكشف عليه، رغم أنها كانت محنة قاسية فإنها كانت منحة من الله تعالى لأعيد فهم الحياة وأنفطم!
المشكلة أنني بعد أن أدركت خطئي في حق زوجتي واعتذرت لها، وأبذل جهدي لأغيّر كثيراً من سلوكياتي حتى أستعيد زوجتي، ولكن هيهات! رغم إقرارها أني تغيرت وما زلت أحاول، وأصدقك القول: أجد صعوبة جمة في تعديل نمط حياة تعودت عليها منذ نعومة أظفاري، للأسف ما زالت زوجتي تعيش في ذكريات الماضي، وعندما أوضّح لها التغير الذي حققته، سرعان ما تذكّرني ولكنك كنت.. وكنت.. بل وتحبطني بتشككها في استمرار إحساني إليها، وتتوقع أنني سرعان ما أنتكس، لم أسمع منها أي كلمة تشجيع أو حتى استجابة وعودة الروح لعلاقتنا.
أخاف فعلاً أن أحبط وأحصر اهتمامي بذاتي خوفاً من أن أنكفئ على نفسي وأصاب بالاكتئاب.
أستاذي، زوجتي من قرَّاء مجلتكم الموقرة، وأنا أخبرتها بتواصلي معك، هل هناك أمل من بريق الإصلاح؟
التحليل
1- الوالدان:
إن ثمرة التربية هي أولاد لديهم من المعارف والمهارات الحياتية والمهنية التي تمكنهم من القيام بعمارة الأرض وخلافة الله سبحانه، وتوليد الدوافع لإطلاق طاقاتهم وسعيهم لتحقيق شمولية العبودية لله تعالى، حيث إن الأولاد يحتاجون إلى دعم آبائهم وأمهاتهم ما داموا أحياء، وسواء أكان هذا الدعم مادياً أو معنوياً، فيجب أن يساعد الأولاد على إطلاق طاقاتهم والتدريب على تحمل مسؤولياتهم، أما الحب المَرَضي الذي يحوّل الأولاد إلى أن يكونوا «كَلًّا» على والديهم ولا يكسبهم قيمة التعلم من التجربة والخطأ، فهذا يقتل في الأولاد حافز المبادرة.
الجانب الآخر أن الأولاد لن يكونوا في كنف والديهم أبد الدهر، بل سيتعاملون مع آخرين ويتوقعون منهم نفس الرعاية كما تعودوها من والديهم، وسيشعرون بالنقص لاحتياجهم للآخرين لإنجاز مسؤولياتهم.
2- الأزواج:
أ- إن من الفروض الشرعية رعاية واهتمام كل زوج بزوجه، بناء على ما وهبه الله تعالى من قدرات روحية ونفسية وعقلية وبدنية، دون تواكل أو أن يحمله أكبر من طاقته؛ (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286)، كما يجب على كل زوج ألا يحمل نفسه بواجبات زوجه، حتى لو كانت في طاقته، وهنا يجب التفريق بين الحالات الاستثنائية، مثل المرض أو أي عارض قد يحول دون أداء الزوج بواجباته على النحو الطبيعي، طبعاً لا حرج على سبيل الفضل بين الزوجين من يقوم أحدهما ببعض واجبات زوجه، مع بيان أنها فضل وليس فرضاً، ولا تأخذ صفة العادة، كأن يقوم الزوج، مثلاً، بمفاجأة زوجته بإعداد الإفطار ويأتي به إلى غرفة النوم.
ب- إذا وجد الزوج من زوجه التواكل سواء لضعف قدراته أو لخطأ في نشأته، فعليه بكل حب وذكاء أن يلفت نظره، وأن يساعده على القيام بما كلفه الله تعالى به، ولا حرج أن يقوم هو بهذا الدور، ولكن تدريجياً يرفع يده حتى تنتظم الحياة بينهما.
جـ- إذا وجد الزوج من زوجه خللاً ما؛ فواجبه إصلاحه؛ (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)، وألا يدع الأمور تتراكم إلى الدرجة التي يفاجأ به زوجه، وفي المقابل على الزوج أن يتفقد حاله مع زوجه ويعلم سواء ضمنياً أو صراحة ما لا يرضي زوجه عنه، ويتفاهما على الأوفق لكل منهما.
د- تستقيم العلاقة الزوجية بالفضل فوق ما للزوج من حقوق، والعفو عن التقصير في الواجبات التي على الزوج.
هـ- إذا حاول الزوج إصلاح نفسه وأتى مُقراً بخطئه؛ فعلى زوجه أن يقابله بكل صفح وحب، وألا يكون عوناً للشيطان على زوجه -كما ورد في معنى الحديث- كما يجب ألا يتبع نزغ الشيطان مشككاً في صدق نية زوجه للإصلاح، أو يهوّن من عزيمته أنه لن يستطيع الإصلاح، أو أن يصده؛ (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (البقرة: 237)، إن اجترار آلام الزوج وسلبياته يشيطنه ويفقدنا الأمل في الإصلاح ويدمر قدرتنا النفسية على التعامل معه، بالإضافة إلى الآثار المرضية البدنية.
التوصيات
أولاً: للزوج:
– أخْلِص النية لله تعالى واستغفر لتقصيرك في حق زوجتك، سواء شرح الله صدرها لعودة الحياة الطبيعية بينكما أم كانت الآلام التي سبَّبتها لها بالعمق التي قد تحتاج مدة لتلتئم، ولا يكون صدها علة للعودة إلى ظلم نفسك والتقصير في حقها.
– 15 عاماً من التجاوز تحتاج منك المحاولة تلو الأخرى والإحسان؛ (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ) (هود: 114)، والتحلي بالصبر.
– كما أنه ليس عليك فقط القيام بمسؤولياتك، بل تجتهد في القيام ببعض مسؤولياتها، وتشعرها أن هذا حقها عليك.
ثانياً: للزوجة:
نعمة عظيمة وفضل كبير أن يدرك زوجك أنه قد أخطأ في حقك، ويأتي معتذراً، ويتوّج ذلك برغبته في إصلاح ما به من خلل، جزاك الله خيراً لقد بذلت كما يقر هو الكثير، وأقدّر الآلام التي تحملتها، وشكوكك في قدرته على الإصلاح، ولكنك ساهمت في ذلك بعدم مصارحته طيلة عشرة أعوام حتى تعوَّد منكِ على ما عوَّدَته عليه أمه؛ لذا عليك:
– بالعفو عسى الله تعالى أن يعفو عنكِ.
– تتويج ما بذلت بمعاونته على اكتساب المهارات التي تمكّنه من القيام بمسؤولياته تجاهك وأولادكما.