تناول عدد من النشطاء مقاطع فيديو تصور الجنة باستخدام تقنية الرسم عن طريق الذكاء الاصطناعي، حيث ظهرت صور مبهرة للقصور والأنهار التي تصور الجنة، وذكر بعض العاملين في حقل الإعلام أن الذكاء الاصطناعي فاق قدرة البشر في تخيل الجنة، وأنه اخترق الخطوط الحمراء المقدسة التي تتعلق بالعقيدة والدين.
وإزاء هذه الصور، تخرج تساؤلات تدور في عقل الفقيه، بل في عقل كل مسلم:
هل يجوز استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي لتَصوُّر أهوال يوم القيامة، وتصوير الجنة والنار وغيرها من مشاهد الآخرة أم لا؟
وهل يعد هذا عدواناً على المقدسات الدينية سواء في الإسلام أو اليهودية والمسيحية؟
مشروعية استخدام الذكاء الاصطناعي لتَصوُّر الغيبيات
وسؤال المشروعية في الإسلام ينم عن أهمية شعور التدين من جهة، وأن الدين مقدر في حياة الناس، وأنه مهما تقدم العلم، فإنه لا بد أن ينضبط بضوابط الاعتقاد، وهو في حد ذاته أمر محمود من ذلك الجانب.
على أن الإسلام أصَّل للمفاهيم الفلسفية الكبرى، ومن أهمها «فلسفة السؤال والتساؤل»، وقعَّد الإسلام لمبدأ «حرية التساؤل»، وجعل «السؤال» مفتاح المعرفة، خاصة إن تعلق السؤال بضرورات الدين والحياة، أو كان في مجالات الأمور المشروعة التي يعود نفعها على الإنسان والبشرية، أو ليس فيها ضرر، أو اقتحام لحرام معلوم من الدين بالضرورة حرمته.
وحين أخبر الله تعالى ملائكته بأنه سيخلق آدم، تساءلت الملائكة لتعرف المغزى من خلق الله تعالى آدم عليه السلام، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 30).
ولم يعنف الله تعالى ملائكته على سؤاله سبحانه، بل أرشدهم أن كل شيء عنده بعلم وحكمة، لكنهم لا يعلمون السر وراء ذلك الخلق، وهو تأصيل دقيق في مشروعية البحث والسؤال.
الإسلام.. والذكاء الاصطناعي
والإسلام أسبق الأديان والعقائد والفلسفات في الإعلاء من شأن العلم بكل أطيافه وجميع مجالاته، المهم أن يكون علماً يعود بالنفع على الناس في دنياهم وآخرتهم.
والمطّلع على الكتاب والسُّنة يجد مئات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في بيان فضل العلم والحث عليه، سواء كان علماً دينياً أو علماً دنيوياً، فقد ذكر العلم ومشتقاته في 856 آية في القرآن الكريم، كما حفلت السُّنة بعشرات، بل مئات الأحاديث عن العلم ومجالاته.
ومما يلاحظ أن المسلمين الأوائل كانوا أسبق لماهية الذكاء الاصطناعي، وهو التخيل العلمي، فنجد عند الفقهاء ما كان يعرف بـ«الفقه الافتراضي»، الذي تحول مع الزمن إلى فقه واقعي، فغالب ما تخيله الفقهاء في عقولهم حصل على أرض الواقع، فكان عقل الفقيه يقوم بما يقوم به الذكاء الاصطناعي اليوم، بل كثير من الاختراعات التي أنتجها العقل المسلم قديماً تتشابه كثيراً بآلية الذكاء الاصطناعي.
وهذا يعني أن الأصل في استعمال تقنية الذكاء الاصطناعي حتى في الأمور الدينية مشروع، فالسعي وراء معرفة أوصاف الجنة أو النار أو أهوال يوم القيامة محاولة لتقريب الصورة والفهم والمعرفة، وهو أشبه بما يمكن أن نسميه «التفسير التصويري»، وهو في حقيقته صورة تقريبية وليس صورة حقيقية؛ لأن أحوال يوم القيامة من أهواله والجنة والنار والصراط وغيرها من الأمور الغيبية لا تُعرف على وجه الدقة، ومعنى أنها غيبية؛ أي أن صورتها على الحقيقة غائبة عن العقل البشري من حيث القطع بشكلها، ولكن هل هذا يمنع تصورها؟ بالطبع لا.
فقد صوَّر الله تعالى لنا الجنة والنار، وبيَّن لنا صوراً من أحوال يوم القيامة، ولو أراد الله تعالى أن تكون صورة أحوال يوم القيامة غائبة عنا تماماً لحجب وصفها عنا، لكنه سبحانه وتعالى وصفها، ووصفها نبيه صلى الله عليه وسلم، بل واجتهد الصحابة ومن بعدهم من علماء الأمة في تقريب صورة الجنة والنار وغيرهما من الأمور الغيبية.
على أننا حين نستخدم تقنية الذكاء الاصطناعي في طلب وصف الجنة أو النار، أو كل ما هو غيب، لا بد أن نراعي أنه ليس على وجه الحقيقة، بل هو على وجه التخيل والتقريب، فإن وصف ما في القيامة لا يُدرك على وجه الحقيقة، فكل ما في الآخرة مغاير عما هو في الدنيا، كما ورد عند البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تبارك وتعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخراً بله ما أطلعتم عليه»، ثم قرأ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة: 17).
ولكن إذا أردنا تخيلاً أقرب إلى الحقيقة فيجب علينا أن ندخل كل المعلومات التي تتعلق بالموضوع الذي نريد رؤيته.
ضوابط استخدام الذكاء الاصطناعي
ومما ينبغي التنبيه إليه أن استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي مباح فيما هو مشروع في الدين البحث عنه ومعرفة وصفه وكنهه، لكن لا بد من مراعاة بعض الضوابط في استعماله، ومن أهمها:
– ألا يُستعمل الذكاء الاصطناعي فيما حرمه الله تعالى من المحرمات المعلومة في الإسلام؛ كالجنس المحرم والخمر والقمار والغش والتدليس وغيرها من المحرمات.
– أن يكون البحث عن الوصف مما هو موصوف، فلا يجوز طلب رسم الذات الإلهية؛ لأن الله تعالى لم يصف ذاته، وجعل رؤيته من النعيم الذي اختص به عباده الصالحين في الجنة، كما ورد في الصحيحين عن سعيد بن المسيّب وعطاء بن يزيد اللّيثيّ أنّ أبا هريرة رضي الله عنه أخبرهما: أنّ النّاس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال: «هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟»، قالوا: لا يا رسول الله، قال: «فهل تمارون في الشّمس ليس دونها سحاب؟»، قالوا: لا، قال: «فإنّكم ترونه كذلك».
يقول ابن الجوزي في «التبصرة» (1/ 66): فقد منع الشرع من التفكر في ذات الله عز وجل وصفاته، فقال عليه السلام: «تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله، فإنكم لن تقدروا قدره» ا.هـ (رواه أبو نعيم في الحلية، ومعناه صحيح).
– كما يمنع البحث عن صورة الملائكة والأنبياء، وذلك لعظيم قدرهم، وإن وردت أوصافهم، وذلك أن تصويرهم فيه تقليل من شأنهم، وربما يكون ذلك عرضة لغير الأسوياء أن يتناولوا الملائكة أو الأنبياء بسوء من خلال صورهم، على أنها أيضاً –لو حصل الناس على صورهم من خلال الذكاء الاصطناعي- فإنها ليست على وجه الحقيقة.
– ويستحب أن يكون البحث من خلال الذكاء الاصطناعي مما فيه نفع للأمة وليس من باب العبث الذي لا طائل من ورائه.
وفي الجملة، فإن استعمال تقنيات الذكاء الاصطناعي من الأمور المشروعة التي يجب أن توجه نحو كل نافع ومفيد للإنسانية جميعاً، وأن تستثمر في توجيه الطاقات نحو الإنتاج ورفعة المجتمع وتقدم البحث العلمي وتيسير سبل الحياة على الناس، وهو من باب التسخير الذي امتن الله تعالى به علينا، كما قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الجاثية: 13).