يقول المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون: «لا نذكر نظاماً أنحى عليه الأوروبيون باللائمة كمبدأ تعدد الزوجات، كما لا نذكر نظاماً أخطأ الأوروبيون في إدراكه، كذلك المبدأ.. إن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطاً، ويمنح المرأة احتراماً وسعادة لا تراهما في أوروبا»(1).
هذه النظرة الغربية لمسألة تعدد الزوجات لم ينفرد بها توينبي، بل شاركه إياها العديد من الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع، وحتى زعماء السياسة أدركوا فائدة التعدد، وقد كتب مارتن بورمان، نائب هتلر، وثيقة بخط يده: إن هتلر كان يفكر جدّياً في أن يبيح للرجل الألماني الزواج من اثنتين لضمان مستقبل قوة الشعب الألماني(2).
وعلى الرغم من ذلك، ينبري مثقفون ومنظمات حقوقية بأمتنا لمحاربة فكرة تعدد الزوجات، باعتبارها أحد أوجه الاستبداد ضد المرأة، وإحدى الممارسات التعسفية الجائرة التي تسلب المرأة كرامتها، وفقاً لمزاعمهم.
التعدد لم ينشأ مع الإسلام
المناهضون للتعدد يتناولونه غالباً من منطلق كونه حلقة في النظام الاجتماعي في الإسلام، ويرتكزون عليه في التلويح بالظلم المزعوم الذي نالته المرأة المسلمة، وكأن الإسلام هو من ابتكر مسألة التعدد.
وهذا إفك مفترى، فالتعدد كان موجوداً في جميع الأمم والحضارات والشرائع السابقة، فعلى سبيل المثال(3): كان قدماء المصريين يبيحون ويطبقون التعدد، منهم رمسيس الثاني، الذي وجدت أسماء زوجاته منقوشة على بعض تماثيله.
كما عرف في الحضارة البابلية والآشورية، وانتشر في فارس بعد زرادشت بغير عدد محدد، وكان موجوداً بغير حد لدى البراهمة في الهند.
وفي اليونان كذلك، وقد كان لفيليب المقدوني سبع زوجات، وكذلك الإسكندر الأكبر، وغيرهما من الملوك.
أما العرب فكان التعدد عندهم معروفاً، ويزيدون فيه على أربع، بهدف تكثير النسل وطلباً للمعونة في الحروب والرعي والتكسّب.
وجاءت به الشرائع السماوية السابقة، فقد ورد أن يعقوب عليه السلام جمع بين أربع، وكان لداود تسع زوجات، ولسليمان كذلك كثير من الزوجات كما ورد في الصحيحين، كما لم يحرم المسيح التعدد، لأنه جاء برسالة مكملة للتوراة، ولم يعارض أي مجلس كنسي في القرون الأولى التعدد حتى حرّمه مجمع نيقية عام 325م.
ورغم ذلك ترى أدعياء حقوق المرأة يهاجمون تعدد الزوجات كتشريع إسلامي، وكأن الإسلام هو من جاء بإقرار التعدد دون أن يكون أمرًا سابقا واقعًا في البشرية.
موقف الإسلام من التعدد
الإسلام قنّن التعدد وحدّده وضبطه، حيث إنه أبطل الزيادة عن أربع، كما ورد في «الموطأ»، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ أَسْلَمَ، وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ حِينَ أَسْلَمَ الثَّقَفِي: «أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعاً، وَفَارِقْ سَائِرَهُنّ».
كما أنه قيّده بالعدل بين الزوجات، كما نص القرآن الكريم: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: 3).
وهذا العدل إنما هو في الأمور المادية كالمبيت والنفقة والمعاملة ونحوه، فهو العدل المستطاع المأمور به، وأما استدلال البعض على منع التعدد باستحالة العدل الذي فهموه من قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (النساء: 129)، فهو استدلال خاطئ؛ لأن الله تعالى لن يبيح التعدد المُقيّد بالعدل وهو يعلم أن تحقيق العدل محال، فلذلك ذكر المفسرون أن المراد بالعدل هو الميل القلبي.
وقد روى البيهقي في «السنن الكبرى» بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: في قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}، قال: في الحب والجماع.
ظلم اجتماعي للمرأة
إن المناهضين للتعدد تحت شعارات حقوق المرأة وكرامتها ورفع الظلم عنها، إنما يوقعون الظلم بحق المرأة، ذلك لأنهم عندما يتحدثون عن الظلم الذي يلحق بالمرأة بسبب التعدد، إنما يتحدثون عن شريحة المتزوجات، فماذا عن بقية النساء، من الأرامل والمطلقات والعوانس، أليس من حقهن أن يحظين بأزواج؟ أليس في ذلك تمييز ضد هذه الشرائح من النساء؟
ولأن الحروب والصراعات غالباً ما تحصد الذكور، فمن ثم تكون محاربة التعدد عقبة في توازن نسبة الذكور للإناث في بعض المجتمعات.
مناهضة التعدد فيه ظلم للمرأة المتزوجة نفسها، إذ إن هذه الدعوات التي تملأ الدنيا صراخاً بأن التعدد يهتك كرامة المرأة، تعزز الفكرة لدى نساء قد تكون حياتهن شاقة بسبب العقم أو المرض، فمع الحاجة الماسة للرجل إلى الزواج، يحدث الصدام، وقد تؤثر الزوجة الأولى حينها أن تطلق -رغم حالتها الصحية وعقمها- على أن يتزوج عليها زوجها، وكل ذلك تأثراً بهذه الدعوة الهدّامة، التي تصور التعدد على أنه انتهاك لكرامة المرأة، بدليل أنه قبل ظهور هذه الدعوات كان الزواج الثاني في هذه الظروف يتم في هدوء وتتعايش معه الزوجة الأولى.
ومن العجيب، أن بعض النساء قد تعلم الواحدة منهن بأن زوجها يخونها، وتبقي على الحياة الزوجية، بينما تطلب الطلاق فوراً إذا ما سعى إلى الزواج الشرعي! لأن الأمر لديها متعلق بمظهرها في مجتمع أصبح يرى التعدد إهانة للمرأة، والسبب هو هذه الدعوات التي تلبس ثوب الحقوق.
لذلك أكثر من ظلمت جراء هذه الدعوة هي المرأة نفسها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
___________________
(1) حضارة العرب، جوستاف لوبون، ص 397.
(2) جريدة «الأهرام» المصرية، 13 ديسمبر، 1960م، نقلًا عن: «قالوا وقلن عن تعدد الزوجات»، محيي الدين عبدالحميد، ص 22، ويتضمن الكتاب العديد من الآراء الغربية المؤيدة للتعدد.
(3) انظر في الأمثلة المضروبة: موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، عطية صقر، ج6، ص 36-46.