يقول مثيرو هذه الشبهة: إن الدين يكبت النشاط الحيوي للإنسان، ويظل ينكّد عليه حياته نتيجة الشعور بالإثم، فيخيل له أن كل ما يصنعه خطايا لا يطهرها إلا الامتناع عن ملذات الحياة، وظلت أوروبا غارقة في الظلام طيلة تمسكها بالدين، فلما نبذت قيود الدين السخيفة تحررت مشاعرها من الداخل، وانطلقت في عالم العمل والإنتاج(1)!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
أولاً: لقد نقل هؤلاء ما حدث من عنت وكبت واستبداد بأوروبا في القرون الوسطى بسبب طغيان رجال الكنيسة وتعنتهم إلى الشرق دون وعي للفرق الذي بيننا وبينهم، حيث لم يعرف الشرق في ظل الإسلام هذا التعنت طوال تاريخه.
ثانياً: ليس الكبت هو الامتناع عن العمل الغريزي كما يخيل للكثير، إنما ينشأ الكبت من استقذار الدافع الغريزي في ذاته، وعدم اعتراف الإنسان بينه وبين نفسه أن هذا الدافع يجوز أن يخطر في باله أو يشغل تفكيره، والكبت بهذا المعنى مسألة لا شعورية، وقد لا يعالجها إتيان العمل الغريزي، فالذي يأتي هذا العمل وفي شعوره أنه يرتكب قذارة لا تليق به، شخص يعاني الكبت حتى ولو عمل هذا العمل أكثر من مرة كل يوم؛ لأن الصراع سيقوم في داخل نفسه كل مرة بين ما عمله وما كان يجب أن يعمله، وهذا الشد في الشعور وفي اللاشعور هو الذي ينشئ العقد والاضطرابات النفسية.
وتفسير الكبت بهذا المعنى ليس من عند المسلمين؛ بل هو تفسير فرويد نفسه الذي أنفق حياته العلمية كلها في هذه المباحث، وفي التنديد بالدين الذي يكبت نشاط البشرية، فيقول: يجب أن نفرق تفريقاً حاسماً بين هذا -الكبت اللاشعوري- وعدم الإتيان بالعمل الغريزي، فهذا مجرد تعليق للعمل(2).
ثالثاً: لا يوجد في أديان العالم ونظمه ما هو أوضح من الإسلام في الاعتراف بالدوافع الفطرية، وتنظيف مكانها في الفكر والشعور قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران: 14)، فيجمع الله تعالى في هذه الآية الكريمة شهوات الأرض، ويقرر أنها أمر واقع مزين للناس، لا اعتراض عليه في ذاته، ولا إنكار على من يحس بهذه الشهوات.
صحيح أنه لا يبيح للناس أن ينساقوا مع هذه الشهوات إلى المدى الذي يصبحون فيه مستعبدين لها، لا يملكون أمرهم منها، فالحياة لا تستقيم بهذا الوضع، والبشرية لا تستطيع أن تحقق طبيعتها التي تهدف إلى التطور الدائم نحو الارتفاع، إذا هي ظلت عاكفة على ملذاتها تستنفد فيها كل طاقتها، وتتعود فيها على الهبوط والانتكاس نحو الحيوانية.
نعم لا يبيح الإسلام للناس أن يهبطوا لعالم الحيوان، ولكنْ هناك فرق هائل بين هذا وبين الكبت اللاشعوري، بمعنى استقذار هذه الشهوات في ذاتها ومحاولة الامتناع عن الإحساس بها رغبة في التطهر والارتفاع.
وطريقة الإسلام في معاملة النفس الإنسانية هي الاعتراف بالدوافع الفطرية كلها من حيث المبدأ وعدم كبتها في اللاشعور، ثم إباحة التنفيذ العملي لها في الحدود التي تعطي قسطاً معقولًا من المتاع وتمنع وقوع الضرر سواء على فرد بعينه أو على المجموع كله.
والضرر الذي يحدث للفرد من استغراقه في الشهوات هو إفناء طاقته الحيوية قبل موعدها الطبيعي، واستعباد الشهوات له، بحيث تصبح شغله الشاغل وهمه المقعد المقيم، فتصبح بعد فترة عذاباً دائماً، وجوعة دائمة لا تشبع ولا تستقر، أما الضرر الذي يحدث للمجتمع فهو استنفاد الطاقة الحيوية التي خلقها الله لأهداف شتى، في هدف واحد قريب، وإهمال الأهداف الأخرى الجديرة بالتحقيق فضلاً عن تحطيم كيان الأسرة، وتفكك روابط المجتمع، وتحويله إلى جماعات متفرقة لا يجمعها رابط ولا هدف مشترك؛ (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) (الحشر: 14).
وفي هذه الحدود التي تمنع الضرر يبيح الإسلام الاستمتاع بطيبات الحياة، بل يدعو إليها دعوة صريحة فيقول مستنكراً: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف: 32)، ويقول: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 77)، ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة: 172)، ويقول: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ) (الأعراف: 31).
بل يصل في صراحته في الاعتراف بالإحساس الجنسي خاصة -وهو مدار الحديث عن الكبت في الإسلام- أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «حُبِّبَ إليَّ من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة»(3).
فيرفع الإحساس الجنسي إلى درجة الطيب أزكى رائحة في الأرض، ويقرنها إلى الصلاة أزكى ما يتقرب به الإنسان لله، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في صراحة كذلك: «وفي بضع أحدكم صدقة»، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟»، قالوا: بلى، قال: «فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»(4).
ومن هنا لا ينشأ الكبت إطلاقاً في ظل الإسلام، فإذا أحس الشباب بالرغبة الجنسية الدافقة فليس في ذلك منكر، ولا يوجد داع لاستقذار هذا الإحساس والنفور منه، وإنما يطلب الإسلام من هذا الشباب أن يضبط هذه الشهوات فقط دون أن يكبتها، يضبطها في وعيه وبإرادته، وليس في لا شعوره، أي يعلق تنفيذها إلى الوقت المناسب، وليس تعليق التنفيذ كبتاً باعتراف فرويد، وليس فيه من إرهاق الأعصاب كما في الكبت الذي يؤدي إلى العقد والاضطرابات النفسية.
وليست الدعوة إلى ضبط الشهوات تحكماً يقصد به الإسلام حرمان الناس من المتاع، فهذا هو التاريخ في الإسلام وفي غير الإسلام يقرر أنه ما من أُمة استطاعت أن تحافظ على كيانها وهي عاجزة عن ضبط شهواتها، والامتناع بإرادتها عن بعض المتاع المباح، كما يقرر من الجانب الآخر أنه ما من أُمة ثبتت في الصراع الدولي إلا كان أهلها مدربين على احتمال المشقات، قادرين على إرجاء ملذاتهم أو تعليقها حين تقتضي الضرورة ساعات أو أياماً أو سنوات، ومن هنا كانت حكمة الصوم في الإسلام(5).
رابعاً: إن ما يقال من تنكيد الدين على أتباعه، ومطاردتهم بشبح الخطيئة في يقظتهم ومنامهم لا علاقة للإسلام به، قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).
إن الخطيئة في الإسلام ليست غولاً يطارد الناس، ولا ظلاماً دائماً لا ينقشع، وخطيئة آدم الكبرى ليست سيفاً مصلتاً على كل البشر، ولا تحتاج إلى فداء ولا تطهير كما تقول النصرانية، قال تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 37)، هكذا في بساطة ودون أيَّ تعقيد.
وأبناء آدم كأبيهم ليسوا خارجين من رحمة الله حين يخطئون، فالله تعالى يعلم طبيعتهم فلا يكلفهم إلا وسعهم، ولا يحاسبهم إلا في حدود طاقتهم قال تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286)، وقال صلى الله عليه وسلم: «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»(6).
وآيات الرحمة والمغفرة والتوبة في القرآن الكريم كثيرة نختار منها واحدة فقط لعمق دلالتها على رحمة الله الواسعة التي وسعت كل شيء، قال تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ {133} الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {134} وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {135} أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (آل عمران).
فهل بعد ذلك شك في عفو الله ومغفرته؟ وأين يطارد العذاب نفوس الناس والله يلقاهم بهذا العطف والترحيب، بمجرد التوبة عن الذنب؟!
____________________________________________________________
(1) المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام، علي بن نايف الشحود، 1/ 227.
(2) شبهات حول الإسلام، د. محمد قطب، 1/ 171. بتصرف.
(3) أخرجه النسائي (3939)، وأحمد (14069) باختلاف يسير.
(4) حديث صحيح أخرجه مسلم، رقم 1006.
(5) شبهات حول الإسلام، د. محمد قطب، 1/ 173. بتصرف.
(6) أخرجه الترمذي (2499)، وأحمد (13049) واللفظ لهما.