لم تتركِ المصادرُ مَزِيَّةً من مزايا الصحبِ الكرامِ إلَّا ووَسَمتْهُ بها..
كان في العشرين من عمرِهِ الميمون أو جاوز العشرين بقليلٍ لمَّا ظفر بمنقبةِ التبكيرِ إلى معانقة الدعوة الوليدة ضارباً الأرض بقدميهِ(1)، عازمًا على أن يَصُوغَ من نفسه لَبِنَةً أساسيَّةً في بُنْيَانها، ومن رحمِ هذه المنقبةِ حاز منقبةً أخرى لن يلحقَ بهِ غيرُهُ إليها، فما ينبغي إلَّا أن تكونَ لصحابي واحدٍ، كان رضي الله عنه أول من مدَّ يمينَهُ مبايعًا النبي صلى الله عليه وسلم في دارِ الأرقمِ بنِ أبي الأرقمِ رضي الله عنه، وما خلعَ عليه اسم عاقلٍ إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان اسمُهُ غافلاً، ولمَّا أسلمَ سماهُ صلى الله عليه وسلم عاقلًا، ومنذ هذه الساعةِ برهنَ على أنَّ لهُ من معنى اسمِهِ النصيب الموفور.
فمنذُ أن تكشَّفتْ عن نفسِهِ سحبُ الشركِ، وانجابتْ عن قلبِهِ ظلمتُهُ لم ينكمشْ منعزلاً عن العملِ الجماعي، أو منسحباً من تبعاتِ البيعةِ للدينِ، وكان لنشدانِ النصرِ في تحركاتِهِ مكانُ الصدارةِ.
فعندَما ألهبتْ البيعةُ الميمونةُ مشاعرَهُ الفياضة بطبيعتِها، وأطلقتْ خواطرَهُ المحبة بخصلتِها، وتحدثتْ في صدرِهِ الرحيبِ، برهن على صحةِ مواقفِهِ واختار الطريق الأصوب رغم ما يحيقُ به من سجنٍ وسجانٍ، وانتفضتْ روحُهُ الوثابةُ فقصدَ إخوتَهُ إياسًا، وعامراً، وخالدًا بني البكيرِ بن عبد ياليل الكناني الليثىي فَرِقاً(2) عليهم مُشْفِقاً بهم، وحدثهم عمَّا كان من أمرِ بيعتِهِ، وعاقبةِ اتباعِ محمدٍ وديانتِهِ، فأجادَ استغلالَ رجاحةَ عقولِهم، ولبَّوْا جميعًا من فورِهم.
لبى إخوتُهُ من فورِهم، وملءُ نفوسِهم راحةٌ وقناعةٌ، وتسابقتْ أيمانُهم إلى مبايعةِ النبي صلى الله عليه وسلم، فكان جمعُهم سباقًا إلى الإسلامِ والبيعةِ.
وفي معركةِ الأذى والاضطهادِ، تلكمُ المعركةُ التي لم تدعْ مسلمًا سباقًا إلَّا وصبَّتْ عليه من حممِ غضبِها غابَ قلمُ التاريخِ عن عاقلٍ.
فهل لم يجدِ التاريخُ ما يراه ويسجلُهُ عنهُ في هذه المعركةِ؛ لأنهُ أثناءَ مكوثِهِ في مكةَ آثرَ السلامةَ وعدمَ التصادمِ، وحبَّذَ اللونَ الهادئ من الحياةِ، أمْ أنَّ حِلْفَ جَدِّهِ عبد ياليل مع بني عَدِىٍّ جعلَهُ يتنقل بين دروبِ مكة ومنتدياتِها ولا يُسَام(3) عذاباً أو ظلمًا؟ وسواءٌ كانتْ هذه أو كانتْ تلكَ أو غيرُهما فإنَّ التاريخ لم يجدْ ما يسجلُهُ هنا.
هذا ما نفهمُهُ، فما كان التاريخُ بالذي يرى ما يَسْتَأهِلُ التسجيل ثم يغضُّ طرفَهُ عنهُ جاعلهُ تلقاءَ ظهرِهِ، وعلى أيةِ حالٍ فقد قلَّت وندرت أخبارُ عاقلٍ وإخوتِهِ في ذاكرةِ التاريخِ رُغْمَ خطرِها وعظمتِها.
وما أن أذن صلى الله عليه وسلم لأصحابِهِ المستضعفين بالهجرةِ إلى المدينةِ طامحًا لهم بدارٍ أوفر أمناً يقفُ أحدُهم فيها بين يديِّ ربهِ وروحهُ في أعمق مضامين الطمأنينةِ، وأسمى مفاهيم السكينةِ، وليس لتربـُّص المشركين سلطانٌ على أمنهِ، ولا لغائلتِهم حسبانٌ في نفسِهِ، بل يمارسُ في هدوءٍ وكرامةٍ حق عبادتِهِ لربٍ ترفضُهُ عقولُهم الكافرةُ، إلَّا وكان عاقلٌ مع إخوتِهِ في طليعةِ الأفواجِ المهاجرةِ.
وفي المدينةِ وبين جوانحِهم(4) اختلطتْ الحميةُ لدينِ اللهِ، بحبِ السخاءِ فيه ومن أجلِهِ، وأسرعتْ الأيامُ في دورتِها تدورُ، ووضعتْ الفريقين وجهًا لوجهٍ على ساحةِ بدرٍ، وانطلقَ كلٌ من عاقلٍ وإخوتِهِ مسرعًا على طريقٍ يواجهُهُ ويُري الله عز وجل من نفسِهِ ويظفرُ بخطواتٍ غاليةٍ صَوْبَ الجنةِ، ولا يعلمُ التاريخُ أربعةَ إخوةٍ لأبٍ واحدٍ ومن دارٍ واحدةٍ وفي شرخِ الشبابِ انْضَووا تحت رايةِ النبي صلى الله عليه وسلم فوقَ ساحةِ «بدرٍ» غيرَهم.
لكأنَّ محبةَ البذلِ النبيلِ والسخاءِ الجليلِ كانتْ أهم إرثٍ لهم من آبائِهم طالما كانتْ دوافعُ ومثيراتُ هذا البذل وهذا السخاءِ مبادئ آمنتْ بها نفوسُهم.
وما لبثت «بدرٌ» أن وضعتْ أوزارَها معلنةً عن نصرٍ للإسلامِ ما أنفسَهُ(5)! وعاد إياسٌ، وخالدٌ، وعامرٌ بنو البكيرِ إلى المدينةِ مع العائدين بأفراحِ النصرِ وبهجاتِ الظفرِ، وقد عانقتْ أرواحُهم ذكريات عاقلٍ وأياديه البيضاء على مسيرتِهم الذي لم يكنْ عائدًا معهم، بل راحَ يُكملُ الخطواتِ الغاليةَ صَوْبَ فردوسِ ربِهِ وارتقى إليهِ شهيدًا مجيدًا، وتسابقتْ ملائكةُ ربِهِ تزفّهُ مغردةً حانيةً في رحلة الصعود، وكان رضي الله عنه في العام الرابع والثلاثين من عمرِهِ الميمون، وصعد إلى هناك بعدما حاز جُلَّ المناقبِ منذ أسلم راكلًا مرحلة الجاهليةِ بشجنِها وجهلِها، وأساها وظلمِها.. هذا السبَّاقُ، المهاجريُّ، البدريُّ، الشهيدُ.
________________________________
(1) طبقات ابن سعد (3/1/282)، شذرات الذهب (1/9)، الإصابة (4378)، أسد الغابة (2677)، سير أعلام النبلاء (3/111).
(2) فرقًا: أي فَزِعًا.
(3) يقال: سَامَهُ العذاب؛ أي: أذاقه أقسى أنواع العذاب.
(4) الجَوَانِحُ: يُقالُ: بين جوانحي ألم، وهي الأضلاع القصيرة مما يلي الصدر، جمعُ جَانِحَة.
(5) ما أنفسه: أي ما أغلاه، وما أعظم قيمته.