جاءت العملية التي نفذها الجندي المصري، قرب معبر العوجة بين مصر والكيان الصهيوني، وقتل خلالها ثلاثة جنود صهاينة لتعيد تذكير العالم باستمرار مقاومة المصريين للتطبيع رغم مرور 44 عاماً على اتفاق السلام.
هذه العملية هي ثالث عملية مقاومة مصرية على مدار 33 عاماً منذ عام 1985 حتى عام 2023، وخلالها قَتَل 3 من الجنود المصريين ما مجموعه 31 جندياً ومستوطناً صهيونياً.
كانت الأولى عام 1985 ونفذها المجند سليمان خاطر، وأدت إلى قتله 7 صهاينة، والثانية عام 1990 ونفذها الجندي أيمن حسن، بعد أن تسلل إلى فلسطين المحتلة وقتل 21، والثالث للجندي محمد صلاح وقتل فيها 3 جنود.
لهذا، قال رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق اللواء احتياط عاموس يادلين: لم يتربَّ المصريون على السلام معنا، وعلينا أن نفترض أن نشاطاً مسلحاً بين الحين والآخر سيخرج ضدنا من جهة هذا الحليف، بحسب صحف عبرية.
ولم تقتصر مقاومة المصريين للتطبيع على الحدود، حيث ظهرت تنظيمات محلية لمطاردة الدبلوماسيين الصهاينة في مصر، أبرزها «منظمة ثورة مصر» التي استهدفت العديد من الدبلوماسيين الصهاينة في القاهرة واستمر نشاطها من يونيو 1984 حتى سبتمبر 1987 تاريخ القبض على أعضائها، وكانت بقيادة محمود نور الدين، ودعم من خالد جمال عبدالناصر.
وقبل هذا كانت أول واقعة مقاومة للتطبيع، ما شهدته قرية أجهور الكبرى في محافظة القليوبية في دلتا مصر يوم 26 فبراير 1980.
كان الرئيس الراحل محمد أنور السادات يستعد لاستقبال أول سفير صهيوني لدى القاهرة بعد توقيع معاهدة السلام، والعلم الصهيوني يرفرف على ضفة النيل أمام جامعة القاهرة في الجيزة، حين حمل فلاح يدعى سعد إدريس حلاوة سلاحاً آلياً، وتوجه إلى مبنى الوحدة المحلية في القرية، واحتجز اثنين من موظفي القرية وطالب بطرد السفير الصهيوني، حتى نالته رصاصة أحد القناصة.
القاهرة و«تل أبيب» تخشيان أن تلهم «عملية العوجة» الشباب المصري للقيام بعمليات مقاومة مماثلة
وقد اتهمته السلطات المصرية وقتها بالجنون، لكن رثاه نزار قباني في قصيدة قال فيها: «مجنون واحد فقط خرج من هذه الأمة العربية الكبيرة العقل المتنحسة الجلد الباردة الدم، العاطلة عن العمل.. فاستحق العلامة الكاملة.. في حين أخذنا كلنا صفراً كبيراً، مجنون واحد تفوق علينا جميعاً، واستحق مرتبة الشرف في ممارسة الثورة التطبيقية، في حين بقينا نحن في نطاق التجريد والتنظير».
الشهيد خاطر
كان ما قام به الجندي سليمان خاطر أول رد فعل من الجيش المصري رفضاً للتطبيع ومعاهدة السلام.
يوم 5 أكتوبر 1985، قتل خاطر 5 صهاينة وجرح 7 آخرين، أثناء نوبة حراسته في منطقة رأس برقة جنوب سيناء في النقطة (46)، بعدما فوجئ بمجموعة من السياح الصهاينة يحاولون تسلق منطقة حراسته، ويهينونه، فأطلق عليهم الرصاص.
سلم سليمان خاطر نفسه بعد العملية، وصدر قرار جمهوري بموجب قانون الطوارئ بتحويله إلى محاكمة عسكرية، وطعن محامي سليمان، صلاح أبو إسماعيل في القرار الجمهوري، وطلب محاكمته أمام قاضيه الطبيعي، وتم رفض الطعن.
تمت محاكمته عسكرياً، وخلال التحقيقات معه، قال سليمان: إن الصهاينة تسللوا إلى داخل الحدود المصرية من غير سابق ترخيص، وإنهم رفضوا الاستجابة لتحذيراته بإطلاق النار.
وبعد أن تمت محاكمة سليمان خاطر عسكرياً، صدر الحكم عليه في 28 ديسمبر 1985 بالأشغال الشاقة لمدة 25 عاماً، وتم ترحيله إلى السجن الحربي في القاهرة.
ولم يمر أسبوع حتى تم نقله إلى مستشفى السجن بدعوى معالجته من البلهارسيا، وبعد 9 أيام فقط من صدور الحكم، أعلنت السلطات المصرية خبر انتحار خاطر في ظروف غامضة يوم 7 يناير 1986.
قالت: إنه شنق نفسه على نافذة ترتفع على الأرض ثلاثة أمتار؛ ما دفع أحزاب المعارضة لاتهام نظام الرئيس السابق (المخلوع) حسني مبارك بقتله، وخرجت مظاهرات تندد بقتله في الجامعات المصرية.
الوحيد الذي ظل حياً
كان الجندي المصري السابق أيمن محمد حسن هو الوحيد الذي ظل حياً من الجنود المصريين الثلاثة الذين قتلوا صهاينة عبر الحدود مع فلسطين المحتلة 1948.
فعل حسن نفس ما فعله الجندي الشهيد الأخير محمد صلاح في معبر العوجة، حيث عبر الحدود المصرية «الإسرائيلية»، في 26 نوفمبر 1990، وهاجم عدة سيارات تحمل جنوداً وضباطاً صهاينة شمال غرب إيلات.
حسب رواية حسن، خلال محاكمته ولفضائيات عقب إطلاق سراحه، فقد نفذ هجومه رداً على إساءة جنود صهاينة للعلم المصري، وقيام آخرين بمذبحة المسجد الأقصى الأولى.
وقال: إنه تمكن في الهجوم من قتل 21 ضابطاً وجندياً صهيونياً، وجرح 20 آخرين بعد مهاجمة سيارة جيب وحافلتين وعندما أصيب في رأسه عاد إلى الحدود المصرية ليسلم نفسه.
لكن الكيان الصهيوني ووسائل إعلام أعلنت، خلافاً لما قاله حسن، أن عدد القتلى المؤكد في الهجوم 4 جنود وضباط فقط، وقُتل خامس من الجرحى لاحقاً.
وقد حاكمته مصر منتصف ديسمبر 1990، وقضت محكمة عسكرية في 6 أبريل 1991 ضده بالسجن المؤبد لمدة 12 عامًا بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار، وهو حكم مخفف مقارنة بزميله خاطر.
وحين خرج حسن من السجن بعد 10 سنوات في عام 2000 احتفت به الصحف والفضائيات المصرية واستضافته ليروي قصة مقاومته للاحتلال وكيف قتلهم ولماذا!
خبراء صهاينة: عمليات الجنود المصريين هدمت أحلام التطبيع وقضت على شهر العسل مع مصر
صلاح.. قتل حلم التطبيع
كانت العملية العسكرية الثالثة، والأخطر التي قام بها الجندي الشهيد محمد صلاح وقتل خلالها 3 جنود صهاينة بعدما تسلل إلى داخل معسكراتهم في فلسطين المحتلة 1948 ذات دلالات أخطر من العمليتين السابقتين لعدة أسباب.
فهي أول عملية مقاومة من جانب جندي مصر منذ 33 عاماً؛ أي منذ آخر عملية قام بها الجندي أيمن حسن عام 1990، وبعد ظهور أجيال جديدة لا تعرف قصة الحروب العربية الصهيونية، وشهدت عمليات غسيل مخ لها باسم السلام والتطبيع.
أهميتها في أن الشهيد محمد صلاح لم يقتل فقط 3 صهاينة، ولكنه قتل حلم التطبيع مع الكيان الصهيوني ودمر العلاقات الإيجابية التي بنتها دول عربية مع «تل أبيب»، وأظهر رفض الشعوب التطبيع مهما أبرمت الحكومات اتفاقات مع الصهاينة.
أهميتها الثانية أنها ستكون ملهمة للشباب المصري والعربي للقيام بعمليات مقاومة مماثلة، وهو ما يفسر رفض مصر إقامة أسرة الشهيد عزاء له والتضييق على أهله وأصدقائه كي لا يصبح نموذجاً يحتذي به الشباب المصري.
فقد وصفه الكيان بأنه «مخرب»، و«إرهابي»، و«لم تستبعد ميوله الجهادية»، وفق صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية، وطالبت القاهرة بفحص ملفه واستجواب زملائه لمعرفة توجهاته الدينية.
ووصفت صحف يهودية الجندي بأنه «استشهادي» أو «ذئب منفرد»، بدعوى أنهم عثروا معه على نسخة من القرآن الكريم، وتم رصده وهو يصلي قبل العملية، وهو ما يعدونه علامة على تطرفه!
وزعمت «يديعوت أحرونوت» أن الجيش «الإسرائيلي» يفترض أن المجند المصري ذئب منفرد، وأنه تحرك للهجوم بدافع ديني وجهادي.
وذكرت وكالة «رويترز» أن محققين مصريين يستجوبون عائلة وزملاء الجندي، وما إذا كان مرتبطاً بجماعة سياسية أو دينية، وهو ما أكده جيران الشهيد أيضاً حيث سألتها السلطات المصرية عن انتمائه لـ«الإخوان»، ونفوا ذلك.
واعتبر محللون ونشطاء مصريون أن الهدف من وراء ذلك هو عدم تحويله إلى بطل شعبي، مثل زميليه خاطر، وحسن، اللذين قاما بعمليات مشابهة عامي 1985 و1990 وقتلا 28 صهيونياً معاً، ومن ثم تلافي تقليد جنود آخرين له على الحدود.
وأكد هذا روعي كيس، معلق الشؤون العربية لقناة «كان» الرسمية العبرية بقوله: إن النظام المصري حرص على خفض الاهتمام بالعملية التي نفذها الجندي المصري وحرص على عدم وصفه بـ«الشهيد» حتى لا يندفع المزيد من الجنود لمحاكاته وتنفيذ عمليات مماثلة، وحتى يحافظ على التعاون الأمني مع «إسرائيل».
أيضاً قال المساعد السابق لوزير الخارجية المصري، السفير السابق معصوم مرزوق، وهو ضابط مصري سابق، لموقع «العربي الجديد»: إن «تل أبيب» أكثر حرصاً من القاهرة على احتواء أي تداعيات للحادث؛ وذلك منعاً لأي ردود فعل قوية على المستوى الشعبي، أو جعل الجندي المصري رمزاً بين الشباب، حتى لا يشكل إغراء لأحد بتكرار ما فعله، وفق قوله.
ما يزعجهم بالتالي هو أن العملية أظهرت أنه رغم مرور ما يقرب من 44 عاماً على توقيع مصر اتفاقية السلام مع الكيان، فإن الشعب المصري يرفض التطبيع مع الكيان الصهيوني.
في ذروة شهر العسل
ويقول يورام ميتال، أستاذ دراسات الشرق الأوسط في معهد هرتسوغ لدراسات الشرق الأوسط بجامعة بن غوريون، في مقال بعنوان «شهر العسل مع مصر يمكن أن يتضرر» بصحيفة «يسرائيل هَيوم»: إن خطورة العملية أنها جاءت بعد مرور 44 عاماً على اتفاق السلام بين «إسرائيل» ومصر.
وقال: إن العملية وقعت في ذروة «شهر عسل» في علاقات مصر و«إسرائيل»، فالتعاون الأمني والاستخباراتي بين الأجهزة الأمنية ازداد عمقاً في السنوات الأخيرة.
ويرى خبراء ومحللون أن «عملية العوجة» التي قام بها الجندي المصري هدمت ليس فقط العقيدة العسكرية الجديدة التي تبنتها دول التطبيع وهي أن «إسرائيل ليست عدواً»، وأثبتت أن عملية التضليل وغسيل المخ للجنود والشعب لم تنه كراهيتهم لدولة الاحتلال، أو وصفها بأنها «العدو».
لذلك كتب المحلل أوفير وينتر، في مركز «معهد بحوث الأمن القومي»، يؤكد أن الهجوم الخطير على الحدود المصرية يكشف التهديد الصامت من سيناء، وأن السلام لم يمنع الهجمات.
وأوضح أن الهجوم يلقي بظلال على عقد من التنسيق الأمني والعسكري غير المسبوق، مشيراً إلى وصف قائد المنطقة الجنوبية المنطقة (بعد العملية) بأنها «كانت حدود سلام»؛ أي لم تعد كذلك.
وقال وينتر: إن الهجوم كشف عن تهديد جاء من بين قوات الأمن المصرية وبدافع من النزعة الدينية أو القومية.
وأبدى الخبير الصهيوني انزعاجه من وصف الخطاب العام المصري (المعادي لـ«إسرائيل») الجندي على شبكات التواصل الاجتماعي بأنه «بطل»، داعياً مصر للتصدي لذلك بحزم لضمان ألا يتم إضفاء الشرعية على ما فعله الجندي، وتصبح مصدر إلهام للآخرين!
وأزعج وسائل الإعلام العبرية اكتشافها أن الجندي المصري البطل محمد صلاح، سبق أن نشر على حسابه على «فيسبوك» خلال الحرب على غزة في عام 2021 منشوراً أبدى دعمه لفلسطين تحت وسم «غزة تحت القصف».
لذلك، ظهرت أصوات في الكيان الصهيوني تطالب بنزع سلاح الجنود المصريين عبر الحدود، أو عدم مدهم بالرصاص في سلاحهم لضمان عدم تكرار هذه العمليات!