شهدت التركيبة الفكرية والأيديولوجية في المجتمع الفلسطيني تغيرات عميقة خلال العقود الأربعة الماضية، تمثل ذلك ببروز تيارات إسلامية تبنت شعار «الإسلام هو الحل»، فيما تراجعت شعبية وقاعدة التنظيمات التي تتبنى الفكر اليساري والعلماني بشكل لافت، وبقيت على الساحة الفلسطينية بشعبية أقل مما كانت عليها في بدايات انطلاقاتها؛ لأسباب كثيرة، أبرزها إخفاق التنظيمات الفلسطينية التي تتبنى النهج العلماني في تحقيق الانتصار على الصهاينة طيلة سنوات الثورة الفلسطينية التي انطلقت عام 1965م، التي تبعها الذهاب لـ«اتفاقيات سلام» مع الصهاينة لم تحقق حلم الفلسطينيين في التحرر وإقامة الدولة الفلسطينية، فيما تبنت التنظيمات الإسلامية «نهج المقاومة» ضد المحتل الصهيوني كسبيل وحيد للتحرر والخلاص من المحتل الصهيوني.
أبو سعدة: إخفاق التنظيمات اليسارية والقومية في تحرير فلسطين ساهم في بروز التنظيمات الإسلامية
دوافع انتشار الفكر الإسلامي
في هذا السياق، أكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة الأزهر في غزة د. مخيمر أبو سعدة لـ«المجتمع» أن عدة ظروف في فترة الستينيات والسبعينيات ساهمت في تبني الفكر اليساري والماركسي سواء في فلسطين أو في المنطقة العربية، وكان ذلك له علاقة وثيقة بالثورة الفيتنامية، وبروز حركات اليسار، والحركات ضد الإمبريالية والرجعية، وانتشار الفكر الناصري والقومي، وكل ذلك كان سبباً في تبني التنظيمات الفلسطينية الفكر الثوري لهذه الحركات والأفكار.
وأشار أبو سعدة إلى أنه في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، بدأت الجماهير الفلسطينية تتجه نحو التيارات الإسلامية، وكان للثورة الإسلامية في إيران الأثر في ذلك، لافتاً إلى أن السبب الثاني والأهم للتوجه نحو الفكر الإسلامي في فلسطين هو عدم نجاح المشاريع اليسارية والقومية في تحقيق الانتصار على الصهاينة، وكان لهزيمة يونيو 1967م الأثر العميق في تبني «خيار الإسلام هو الحل».
واتفق مع أبو سعدة الكاتب الفلسطيني أكرم عطا الله الذي أشار لـ«المجتمع» إلى أن أحد أهم أسباب انتشار الفكر الإسلامي في فلسطين هو «نهج المقاومة»، مبيناً أنه بعد فشل اتفاقية «أوسلو» حدث تغير جذري في توجه المجتمع الفلسطيني نحو الفكر الإسلامي الذي تبنى نهج المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني.
عطا الله: نهج المقاومة أحد أهم أسباب انتشار الفكر الإسلامي في فلسطين
بدوره، قال الباحث في مجال التاريخ د. ناصر اليافاوي لـ«المجتمع»: إن نجاح الثورة البلشفية في روسيا، والمرتكزات التي اعتمدت عليها الماركسية والعلمانية وما ارتبط بها من المفاهيم والتصورات عن طبيعة الكون والحياة والإنسان كان موضوع جدل وأخذ ورد، بين مؤيد ومعارض، مضيفاً أن هناك من انبهر كثيراً بمقتضياتها وتبعاتها إلى درجة أنه يراها بعين القداسة.
وتابع: لذا رأينا العديد من التنظيمات والحركات الوطنية أخذت، وعملت، واسترشدت بها وبمن شابهها من ثورات، ولكن وعلى الأرجح، وبعد نجاح الثورة الإيرانية على يد الخميني، ظهر هناك رأي باعتبار الحركات الماركسية والعلمانية أمراً دخيلاً على تصورات البلاد والعباد، وهي مفسدة لأفكار الناس واعتقاداتهم وسلوكهم اليومي، ومن هنا بدأت العديد من الحركات الدينية الإسلامية المرتكزة على أفكار الإمام أبي الأعلى المودودي، ومن بعده حسن البنا، وسيد قطب، ومراجعات حسن الهضيبي.
اليافاوي: العلمانية قوبلت بالرفض.. والتوجهات الإسلامية للشعوب لتحقيق طموحاتها
وأوضح اليافاوي أن بروز التيارات الدينية واقع محتوم لا مفر منه؛ لأن أمرها يرتبط بواقع الحياة والعقيدة في حياة المسلمين، وخاصة الفئات المهمشة، مؤكداً أن المرحلة الجديدة لهذا التوجه خاصة في فلسطين كان بعد عام 1982م، واليوم نتج هذا التغير الكبير في الأفكار وتبني الفكر الإسلامي، ويمكن القول هنا: إن الحالة في فلسطين جزء من هذا الأمر.
وأشار إلى أنه مع انتشار الفقر، وغياب العدالة الاجتماعية، ومظاهر سوء التوزيع؛ واحتكار الطبقة الحاكمة ومن تقرب إليها كافة مفاصل الحياة والترف والوظائف العليا، كان التنظير العلني في المساجد والجامعات والأندية والجمعيات الإسلامية، وامتد التنظير ليشمل كافة مؤسسات التنشئة الاجتماعية والتربوية، والتركيز على أن المفاهيم والتصورات الحزبية الإسلامية هي كل ما اتصل بالتصورات العقلية لدى الإنسان وببنية الدولة، حتى أدق مختلف جوانب الحياة الاجتماعية؛ وهو ما نجح بالفعل في إحداث الاستقطاب والجذب لتبني الفكر الإسلامي خاصة في فلسطين.
خصوصية فلسطين
فيما اعتبر رئيس شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية محسن أبو رمضان لـ«المجتمع» أن ظاهرة التعددية الفكرية صحية في أي مجتمع من المجتمعات، ومنذ انطلاق التنظيمات الفلسطينية في منتصف الستينيات من القرن الماضي كانت هناك تيارات متنوعة، مشيراً إلى أن ما يميز القضية الفلسطينية أنها ركزت على الخصوصية الوطنية وعلى هوية الشعب الفلسطيني خاصة بعد محاولات طمسها أثر النكبة الفلسطينية.
أبو رمضان: خصوصية الحالة الفلسطينية تتطلب بناء شراكة وطنية بعد فشل طريق التسوية مع الصهاينة
وبيَّن أبو رمضان أنه بعد الانتفاضة الشعبية الكبرى في عام 1987م، ظهر التيار الإسلامي القوي متمثلاً في حركة المقاومة الإسلامية (حماس) كتعبير وطني عن المقاومة الفلسطينية بمرجعية دينية سياسية.
وأكد أن كل المحاولات لدمج وضم كل من «حماس» و«الجهاد الإسلامي» لمنظمة التحرير الفلسطينية باءت بالفشل على الرغم من الحوارات المتعددة، مما ولَّد حالة استقطاب حادة في ظل عدم الاتفاق على الشراكة السياسية؛ وهو ما أضر بالقضية الفلسطينية، خاصة أن هناك تبايناً واضحاً فيمن يتبنى نهج التسوية ونهج المقاومة، على الرغم من أن نهج التسوية فشل في تحقيق الإنجازات الوطنية، والحل الوحيد هو التوجه لانتخابات تشريعية ورئاسية وبناء جبهة وطنية موحدة.