نحتاج جميعاً أن نحظى ببعض أوقات ساحرة نطلق عليها «عطلة»، وتعد تلك العطلة فرصة أكثر من رائعة لاستعادة طاقتنا وحيويتنا.
حاجة أبنائنا (سواء كانوا أطفالاً أو مراهقين) لهذه العطلة أشد، فهي ضرورية لسلامهم النفسي وصحتهم العقلية، الهدف الرئيس من العطلة أو الإجازة هو السماح للجسد والعقل بالحصول على مساحة من الراحة والمتعة (المعنى اللغوي للإجازة هو السماح)، بمعنى أن الإجازة هي الوقت الذي نقضيه بعيداً عن ضغوط العمل والمذاكرة حتى نستطيع التخلص من أثر هذه الضغوط على طاقتنا النفسية، بعدها نكون مهيئين وربما متشوقين لمزيد من العمل الجاد.
لذلك، أرى أنه أمر بائس حقاً أن نخطط كي نجعل من إجازة الأبناء مراجعة لما سبق من مقررات دراسية أو بداية مبكرة لدراسة المقررات الجديدة القادمة، فالنتيجة ستكون مزيداً من المشاحنات أيام العطلة، وضياع فرصة الاستمتاع، وإعادة الشحن والتجديد للطاقة النفسية، وأيضاً تحصيلاً متواضعاً على مستوى الدراسة.
كثير من الآباء يشكون مر الشكوى من الأبناء أيام العطلة، رغم أنهم يقدمون الكثير والكثير من النصائح والتوجيهات حتى لا يتم إهدار وقت العطلة في النوم أو وراء الشاشات، لكن النصائح لا تثمر وكأنَّ هناك جداراً غير مرئي يحول بين نصائحنا وعقولهم.
النصيحة المؤثرة
يصب الآباء جم غضبهم على عقول الأبناء التافهة أو قلوبهم المغلقة دون النصيحة، ولم يتنبهوا أن كثرة النصح تسبب الملل وقلة الاستجابة، كان ابن مسعود يقدم النصيحة والعظة للناس كل خميس حتى قال له رجل: يا أبا عبدالرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، فقال: «أمَا إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكم، وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا» (متفق عليه).
فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي يطابق خلقه القرآن، كان يباعد بين النصائح خشية على الصحابة الذين هم أكثر الناس إيماناً من السأم والملل، فماذا عن الآباء الذين كثيراً ما يقدمون نصائح قولية لا تتوافق مع واقع سلوكهم، وعلى الرغم من ذلك يقدمون وجبة من النصائح تشبه المقرر المدرسي عدة مرات في اليوم لأبناء هذا الجيل.
يمكننا القول، إذن: إن كثرة النصائح تقلل من الحساسية للاستجابة، كما أن نصائح من نوعية الأمر والنهي المباشر الجاف (افعل ولا تفعل) تلقى استجابة شبه منعدمة ورغبة عنيفة في المقاومة من قبل الأبناء، وإذا كان ذلك له بعض المسوغات العقلانية في أوقات الدراسة، فإنه يتحول لصورة عبثية أثناء العطلة، لا يعني هذا بالطبع المساس بالمبادئ الأساسية للدين والأخلاق التي هي خط أحمر في جميع الأوقات، ولكن أعني ما يطلق عليه النصائح لأجل استثمار الإجازة الصيفية، وهو أمر بالغ الأهمية (سواء كان هذا الاستثمار في التعلم أو التدريب أو حتى خوض تجارب العمل)، ولكن دون ضغوط، ودون مقارنات غاضبة، ودون نصائح جافة، فاستثمار العطلة لا بد أن يكون له دوافع ذاتية يدعمها ويعززها الآباء.
وهذا لن يتحقق إلا بمنح الأبناء مساحات حقيقية من الحرية المسؤولة وما يترتب على ذلك من أجواء حوار صحية ورسائل ثقة ودعم، فيكون ذلك كالوقود الحيوي للأبناء الذي يدفعهم لاستثمار وقتهم بأقصى ما يستطيعون.
كثير من المرح
إن الإبداع الحقيقي للآباء يتحقق عندما يحولون الأهداف التي يسعون لتحقيقها مع الأبناء إلى حالة من المتعة المشوقة التي ينجذب لها الأبناء بشكل ذاتي، وحتى يتحقق ذلك لا بد من وجود علاقة دافئة معهم، ولا يوجد طريق أقصر ولا أيسر من المرح لصنع هذه العلاقة.
وتعد الإجازة الصيفية الوقت الأفضل للمرح، فالتخطيط للحصول على عطلة عائلية (ولو قصيرة) يترك أثراً يشبه السحر على الأبناء، فتظل ذكريات العطلات العائلية أثناء الطفولة أبهج وأسعد لحظات الحياة، حتى إن البعض يستعيدها في مخيلته كي يستطيع التعاطي مع أوقاته العصيبة في مراحل لاحقة من العمر؛ لذا فإن صناعة ذكريات جميلة يتخللها المرح لدى الأبناء استثمار لا يقدر بثمن.
التخطيط لقضاء عطلة عائلية يعني أن يكون الهدف هو المتعة وقضاء وقت حميمي مشترك والاسترخاء والتخلص من الضغوط.
وحتى يتحقق هذا لا بد من تفعيل آليات الحوار الصحي المرن، بحيث نستطيع مناقشة كافة التفاصيل بدءاً من المكان الذي سنقضي فيه العطلة، مروراً بالمسؤوليات الملقاة على عاتق كل فرد بحسب إمكاناته، وانتهاء بضوابط العطلة.
ولا يعني هذا أنه لن توجد شجارات بين الأبناء بعد وضع هذه الضوابط، لكن علينا أن نقبل بها، ولا نتدخل إلا في أضيق الحدود حتى يتعلموا طرق إدارة الخلاف.
الحقيقة أن التخطيط لعطلة عائلية أمر يستطيعه الجميع، فليس علينا أن ننفق الكثير من المال لنحظى بواحدة، فيمكننا قضاء العطلة مع العائلة الممتدة، ويمكننا الاستمتاع بعطلات اليوم الواحد، فعطلات صغيرة متكررة قد تكون فكرة أكثر إثارة وجاذبية.
إن إجازة الأبناء الصيفية لا يمكن قضاؤها كلها كعطلة للعائلة، ولسنا مسؤولين كآباء عن شعور الأبناء بالملل؛ فنظل نبحث بدلاً عنهم عن وسائل وآليات لشغل وقت فراغهم أو تسليتهم، ولكن علينا تركهم للبحث بأنفسهم.
كل ما يمكننا فعله تقنين استخدامهم للشاشات بطريقة واقعية تحقق التوازن، ثم منحهم القليل من التوجيهات اللطيفة بطرق غير مباشرة، فقليل من التوجيهات يكفي لو كانت مستقبلات النصيحة حساسة ولا تقاوم، ولن يتحقق ذلك إلا بخلق مناخ أسري يسوده المرح والدعابة التي تقلل من العناد والرفض وتشرح الصدور لاستقبال النصح.
__________________________
كاتبة متخصصة في قضايا الأسرة.