إذا عمل ابن آدم دون انقطاع فإنه يُهلك نفسه، ويُتلف جسده، ويُجهد عقله، لذا فإنه يبحث عن الراحة التي يجدد بها نشاطه؛ فـ«ليس للمتعَب المتحرِّك بدٌّ من سكون يكون جَمامًا له»(1).
وهذه هي ثنائية الحياة التي تتعاقب عليها الأضداد التي لا غنى أو مفارقة للإنسان عن إحداها؛ فهناك الصحة والمرض، العافية والبلاء، العلم والجهل، القوة والضعف، الراحة والنشاط.. إلخ.
وهناك نشاط يومي وراحة يومية ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً {9} وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً {10} وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً﴾ (النبأ)؛ أي «جعلنا نومكم لكم راحة ودَعة، تهدؤون به وتسكنون(2).
وهناك عمل موسمي فصلي وراحة موسمية فصلية كذلك، ولكي يستمر العمل وتظهر ثمرته لا بد أن تتخلله فترة راحة؛ فالعمل الدائم لا يطيقه الإنسان، وكذا الراحة الدائمة يملها الإنسان.
فالتعاقب بين الاثنين يجعل الحالة النفسية للإنسان متوازنة يستوي في ذلك الصغير والكبير.
ومن وصايا الزمخشري: «تكلَّف من الطاعة ما دون الاستطاعة؛ فمن أولاها الطاقة كلها أوشك أن يملها، فلأن تترك فيها بقية خير من أن تجدها بطيَّة، ولا تنس حظها من الجَمام فذلك سبب التمام»(3).
والإجازات والعطل أضحت جزءًا لا يتجزأ من ثقافات الشعوب قاطبة، وكثير من الكبار قد يكون لهم من الأهداف والخطط ما يجعلهم يحققون الكثير من الفوائد في عطلهم، لكنَّ بعض الكبار وكثيراً من الصغار قد يفرِّطون في أوقات عطلهم، وتمر عليهم دون أن يخرجوا منها بفائدة تعود عليهم بالنفع.
وهذه طامة كبرى؛ فالعطلة لا تعني الكسل التام والبطالة، بل هي فترة بعْث نشاطات أخرى غير تلك التي كان ينشط فيها الإنسان.
والأبناء لا نتركهم فريسة للبطالة والفراغ اللذين يسحقان الإنسان ويجعلانه شخصًا زائدًا على الحياة، بل نعلمهم استثمار العطل؛ وذلك يكون عبر عدة محاور:
1- محور اللعب واللهو:
إن الحياة فيها من البلايا والرزايا ما يعكر صفوها؛ لذا فإن الصغار علينا أن نُفسح لهم المجال في اللعب، ونجعله هو الغالب عليهم؛ لأن هذه هي طبيعة المرحلة، فلا نفرض عليهم ما لا يتواءم معها، وهي التي ستعلق بأذهانهم عندما يكبرون، ويحنون إليها عند تداعي الهموم على رؤوسهم.
وقد صكت أمنا عائشة قاعدة ذهبية حينما قالت: «اقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ»(4).
وفي أخرى: «اقْدِرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْعَرِبَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ»(5).
و«مَعْنَاهُ: أَنَّهَا تُحِبُّ اللَّهْو وَالتَّفَرُّج وَالنَّظَر إِلَى اللَّعِب حُبًّا بَلِيغًا، وَتَحْرِص عَلَى إِدَامَته مَا أَمْكَنَهَا، وَلا تَمَلّ ذَلِكَ إِلاَّ بِعُذْرٍ مِنْ تَطْوِيل«(6).
وكان النبي ﷺ يتفهم حاجتها إلى اللعب؛ فقَالَتْ: كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي(7).
2- محور تنمية المواهب والمهارات:
في الإنسان مواهب وقدرات فطرية جبلِّية تكون في البعض دون غيرهم، ومهارات مكتسبة يستطيعها كل إنسان إن بذل جهده وأجاد عمله وطالت خبرته.
والمواهب تحتاج من يكتشفها ويعمل على تنميتها وصقلها؛ لينتفع بها صاحبها وينفع بها غيره.
والمهارات بمداومتها وإتقانها يستطيع الإنسان أن يفعلها دون جهد كبير منه، بل وبطريقة آلية، ويجمع بين الكفاءة وسرعة معدل الإنتاج.
وأولادنا تتيح لهم العطلة الوقت الذي يمكنهم من خلاله اكتشاف مواهبهم وتنميتها والتغلب على مواطن القصور فيها والاستفادة منها الاستفادة القصوى، وتعلُّم المهارات المعينة على اقتحام الحياة والإسهام فيها.
وبالموهبة والمهارة يثبت الإنسان ذاته، ويؤكد تفرده في عالم يبحث عن التميز والفرادة.
3- محور العلم والاطلاعات:
إفساح الوقت في العطلة للقراءة الحرة تدل أولادنا على عوالم معرفية كثيرة.
والعلم الإلزامي قد يتبرم به الأبناء؛ لكونه مفروضًا عليهم، وملزمين بالاختبار فيه والنجاح وإلا تتعطل مسيرتهم في حياتهم عن صحابهم، لكن الاطلاع الحر قد يجد فيه بعض الأبناء بغيتهم، ويلوِّنون عالمهم بناء على تصوراتهم المكتسبة من هذا الاطلاع.
والاطلاع الحر واسع سعة العلم ذاته بأنواعه وأبوابه وفنونه؛ وهو أشبه ببستان يمكن للأبناء أن يقطفوا من ثماره دون شعور بضغط أو إلزامية، وعند الملل من فن يميل ويعرج على غيره من فنون العلم.
4- محور العبادة والاجتهادات:
مفهوم العبادة واسع في الإسلام، وهناك عبادات قد يفرِّط فيها الأبناء نتيجة لانشغال أوقاتهم أثناء الدراسة؛ مثل: صلة الأرحام والزيارات، وبدخول العطلة يمكنهم فعل ذلك قربة إلى الله، وتمتينًا للروابط الاجتماعية.
وفي وقت الصغر يكون الذهن صافيًا والحافظة نشطة؛ لعدم انشغالها بهموم الحياة، وعليه فالاستفادة بذلك في حفظ القرآن وتجويده والأحاديث النبوية الشريفة يؤسس أبناءنا التأسيس السليم المتين الذي يحفظ عليهم دينهم وعقيدتهم، ويكون عاملاً كبيرًا في الحفاظ عليهم من الفتن والأهواء التي لا تنتهي.
5- محور تقوية الجسد بالرياضات:
الجسد أمانة من الله وضعه بين يدي خلقه؛ ليستعينوا به على معاشهم ومعادهم، والتفريط فيه يعطل الإنسان عن تأدية مهامه.
والقوة الجسدية مطلوبة محبذة؛ فـ«الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ»(8)، على أن يتم تربية الأولاد في استخدامها في الحق والعدل لا الباطل والجور.
6- محور الفسح والسياحات:
يتعلم الإنسان بالسفر والسياحة أمورًا لا يتعلمها في الكتب، أو من خلال مشاهدة التلفاز، أو الانقطاع إلى مواقع الإنترنت، وقد جاء الحث من الله تعالى للبشر بالسعي والضرب في الأرض فقال: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ (الملك: 15).
ومن المؤسف أن يعيش الإنسان في بلده عمره كله أو بعضه ولا يتجول في بلده متعرفًا على آثاره وفصول تاريخه ومناطقه باختلاف تضاريسها ومناخها وساكنيها.
7- محور العمل والاحتراف:
وإذا ناهز الطفل البلوغ، فإن عليه أن يؤخذ رويدًا رويدًا لفكرة الاعتماد على النفس، وأنه سيدخل مرحلة لاحقة من زواج وغيره، وعليه ألا يظل عالة على أبيه.
وكذا تبدأ الأمهات في تعليم الفتيات بعضًا من أعمال المنزل، وتهيئتهن لمرحلة يكن فيها مسؤولات عن زوج وأولاد.
والعمل والاحتراف لا يكون لمساعدة الوالد؛ بل ليعرف أن خير طعام هو الذي يأكله من عمل يده.
وقد رأيت -وأنا في الجامعة- طلابًا من المتفوقين الذين كانوا بكلية الصيدلة، وكانوا يعملون مع آبائهم في ورشات النجارة بمدينة دمياط، ولم يكن الاحتراف في العطلة معوقًا لهم عن التفوق في الدراسة وتحصيل أعلى الشهادات.
وأخيرًا؛ فإن من خير ما يستثمر الإنسان فيه ماله ويبذل فيه جهده هو الاستثمار في أبنائه، وتعليمهم الاستفادة من أوقاتهم، واستثمار أوقات فراغهم وراحتهم واستجمامهم يعود عليهم بأعظم نفع في الدنيا والآخرة.
_________________________
(1) الحيوان للجاحظ، (1/ 188).
(2) تفسير الطبري، (24/ 151).
(3) أطواق الذهب، ص 140-141، باختصار.
(4) أخرجه البخاري.
(5) أخرجه مسلم.
(6) شرح النووي على مسلم، (6/ 185).
(7) أخرجه البخاري.
(8) أخرجه مسلم.