«خدعوك فقالوا: إن العلمانية هي فصل الدين عن السياسة»، بهذا أماط الكاتب فهمي هويدي اللثام عن أكذوبة التعريف القاصر المختزل الذي يتداوله علمانيو الغرب والعرب معاً للعلمانية التي تُراد كصبغة لعالمنا الإسلامي، للتعمية على خطورتها، وطمس مدلولات تعريفها الصحيح الذي يتضمن فصل الدين عن كل شؤون الحياة، بكل مظاهرها، وترك تصاريفها للبشر وما يرتضون.
حصر مفهوم العلمانية في فصل الدين عن السياسة يبرزها وكأنها نظام سياسي، ويتجاهل فلسفتها وأساسها المعرفي، ولذلك يقول د. عبد الوهاب المسيري: «حصر البعض نطاق العلمانية في هذه الدائرة الضيقة، دائرة فصل الدين عن الدولة فحسب، واستبعدوا الدائرة المعرفية المرجعية الأشمل، وتعريف العلمانية على هذا النحو يتجاهل قضية المرجعية والنموذج الكامن وراء هذا المصطلح».
أردت من هذه المقدمة الطويلة في تحديد مفهوم العلمانية، تقرير شمولها لمناحي الحياة لا السياسة وحدها، تأسيساً لتتبع أثرها في فضائنا الإسلامي، وعلى وجه التعيين تأثيره على ملف المرأة المسلمة، الذي يوليه العلمانيون اهتماماً بالغاً، نظراً لأهمية دور المرأة ومحوريته في المجتمع الإسلامي.
مسارات علمنة المرأة
تعرضت المرأة إلى الغزو العلماني -المُحمَّل على رؤوس تنويرية وتوفيقية- من طريقين:
الأول: مسار عام، اشتركت فيه المرأة في التعرض لعملية العلمنة مع المجتمع ككل، كما هي الحال في تعزيز الأفكار التي تقوض الدين وتهمشه، مثل الادعاء بعدم صلاحية الدين لكل زمان ومكان، وإنكار حجية السُّنة، وتقديم إعمال العقل على الإيمان بالنص، والتفسير التاريخي للنصوص، والزعم بأن الدين والعلم لا يلتقيان، وأن التقدم لن يكون إلا بحصر الدين في العلاقة الروحية بين العبد وربه، وترك أمور الدنيا للعقل البشري على غرار ما فعل الغرب، ونحو ذلك مما يؤدي إلى حصر الدين في أضيق نطاق، وإقصائه عن شؤون الحياة.
الثاني: مسار خاص، وأعني به تعرض المرأة لهذا السيل الجارف من مكونات الفكر النسوي، الذي يرفع شعارات تحرير المرأة ونيلها حريتها، هذا الفكر الذي عزز عند المرأة المسلمة أنها ظُلمت في رحاب الإسلام، وضرورة مطالبتها وسعيها للمساواة المطلقة بينها وبين الرجل، ونسف مفهوم قوامة الرجال على النساء، وتمتعها بكل ما للرجل مهما بلغت الفروق النفسية والفسيولوجية والتكوينية بين الجنسين.
تأثر المرأة بالمد العلماني
لا يستطيع أحد الإنكار بأن المجتمعات الإسلامية تأثرت كثيراً بالأفكار العلمانية التي يعمل على فرضها ليل نهار الغرب وأذنابه في بلادنا، فمن الطبيعي أن تنال المرأة حظها ونصيبها من هذا التأثّر، ونستطيع أن نرصد ذلك من خلال الواقع بسهولة، ونجمل أهم هذه المظاهر في النقاط التالية:
1- تقليص مفهوم التدين:
بتأثير المد العلماني والتغريبي، صار لكثير من النساء مفهوم مختزل للتدين يعكس حالة من الفصام النكد، فتكتفي إحداهن بكونها تصلي وتصوم لتعرّف نفسها كشخصية متدينة، رغم التخبط الواضح في سلوكياتها، فهي متبرجة وسافرة وتظهر مفاتنها، وتختلط بالرجال إلى الحد الممنوع، ونحو ذلك من المخالفات، لكنها متدينة، فقط لأنها تصلي.
وغدت عبارات مثل «ربنا رب قلوب»، «الحجاب حجاب الروح»، ونحوهما، عبارات تجد لنفسها مساحة وافرة لدى قطاعات النساء.
وبناء على ذلك، ظهر وراجَ بقوة مصطلح الصداقة بين المرأة والرجل، وصار يُسعى إلى تطوير هذا المصطلح ليظهر للعيان أنه يماثل الصداقة بين عناصر الجنس الواحد، ففي ظل هذه الصداقة تلتقي المرأة بالرجل الأجنبي، وتفضي إليه بأسرارها ومشكلاتها حتى مع زوجها، طالما أنها تكنّ له مشاعر الصداقة البريئة، فهي متدينة بصلاتها أو بقطعة قماش صغيرة على رأسها، أو بمجرد الاقتصار على ادعائها بأنها ذات خلق.
2- التمرد على المرأة:
وأعني به تمرد المرأة المسلمة على طبيعتها الأنثوية وسعيها وراء إثبات الذات عبر ميادين لم تخلق لها، وتنافي طبيعتها كأنثى، فأصبح الشغل الشاغل لكثير من النساء إثبات ذواتهن عن طريق مزاحمة الرجال في العمل، وشَغْل أعلى المناصب السياسية والنيابية والسيادية مما يتطلب تفرغاً وطاقة كبيرة تتوافر في الرجال أكثر من توافرها في النساء.
إضافة إلى ذلك، تقف المرأة موقفاً مضاداً للرجل، بفعل تحول قضايا حقوق المرأة من المطالبة بحقوق جارت عليها الأعراف البعيدة عن تعاليم الشريعة، إلى قضية تمحور حول الذات الأنثوية، جعلها تستبدل الـ«نحن» التي تعبر عن الذكر والأنثى كمكونات للوحدة الاجتماعية، إلى «هو»، و«هي»، كتعبير عن التضاد بين الجنسين.
ومردّ ذلك إلى تأثرها بموجات الفكر النسوي وحقوق المرأة الذي يعد أبرز المطايا التي يعتليها العلمانيون للوصول إلى المرأة المسلمة وتغيير هويتها وثقافتها.
3- الصدام مع التشريع:
فبفعل الغزو العلماني، عارضت كثير من النساء بعض التشريعات الإسلامية وقطعيات الشريعة، فبعضهن ينكرن فرضية الحجاب الذي دلت عليه النصوص قطعية الثبوت والدلالة، وأجمعت عليه الأمة، تأثراً بالأبواق العلمانية التي تتستر بمسميات التنوير والتحديث، التي يسكب أربابها مثل هذه الأفكار على آذان الجماهير بشكل عام والنساء بصفة خاصة.
وبما أن الزواج عقد مدني لا علاقة له بالدين في الأفكار العلمانية، انعكس ذلك على بعض النساء في المجتمعات الإسلامية، على هيئة استباحة عقود الزواج المكتوبة بين الرجل والمرأة بلا ولي وبلا شهود، وهو مما كثر وانتشر في جامعات، بل ومدارس بعض البلدان الإسلامية ذات التعليم المختلط.
كما دخلت بعض النساء في صدام مع تشريعات الميراث، وطالبن بالتسوية رغم دقة وروعة نظام الميراث في الإسلام، ومع حقوق الزوج التي شرعها الإسلام وقوامته على أهل بيته، ومع تعدد الزوجات، تأثراً بالغزو العلماني التغريبي الذي يرفع شعارات حقوق المرأة.
4- التقليد الأعمى:
ولأن العلمانية تنزع الهيمنة للدين على شؤون الدنيا، فقد أثر الفكر العلماني على كثير من نساء المسلمين في الانفتاح غير الموزون على الثقافات الغربية، والاستغراق في التقليد الأعمى للمرأة في أوروبا، دون مراعاة قواعد الحلال والحرام في هذا التقليد، سواء كان في موضات الملبس وقصات الشعر أو في علاقة المرأة بالرجال، أو في التمرد على الأعراف والتقاليد المجتمعية.
الصورة ليست سوداء
ولا يعني هذا أن العلمانية نالت من مجموع نساء الأمة، فلله الحمد والمنة، هناك كثير من النساء يحافظن على تعاليم الدين، وينبذن كل محاولة للفصل بين الدين والحياة، ويظهر ذلك جلياً على مواقع التواصل الاجتماعي، فعلى الرغم من الفساد الفكري والأخلاقي الذي انتشر في هذه المواقع انتشار النار في الهشيم، فإن كثيراً من النساء يحملن هَمَّ الدعوة إلى الدين بشموليته، كما أن هناك الكثير من النساء العاملات في حقل الدعوة يركزن على انتشال المرأة المسلمة من براثن العلمانية.
لا بديل عن تكثيف جهود العلماء والدعاة والنخب الثقافية المحافظة عن أي وقت مضى، للاهتمام بتثقيف المرأة وتأهيلها عبر المحاضن العلمية والتربوية بما يتناسب وهويتنا الإسلامية، وتنوع الخطاب الدعوي وقنوات التأثير، بما يكفل تحصينها ضد الفكر العلماني، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.