تشغل المفكرين محنة انتشار المسكرات والمخدرات وأنواع التبغ والهوايات القبيحة الأخرى! ورأوا فيها تهديداً حقيقياً لأمتنا وقضاء سهلاً على يومها وعدها، وقد فكرت في أسباب هذه المحنة، فرأيت أنها إن لم تقع وقع مثلها أو قريب منه! ذلك أن الأمم قد تصاب بمرض فقدان المناعة الخلقية كما تصاب الأجسام بمرض فقدان المناعة الصحية! وفي كلتا الحالتين يمسى الكيان البشري مفتوح الأقطار لكل البلايا التي تعجل بحتفه!
وفقدان المناعة النفسية أو الخلقية يعود إلى ضعف التربية أو سوء التنشئة، ونمو الطفل وهو محروم من ضوابط الخلق الزاكي والعبادة السامية والعادات والتقاليد التي تحرس عقله وتصون مسلكه وتشعره بأن هذا حسن يستمسك به، وهذا ردى يبتعد عنه، وهذا امرؤ فاضل يُحترم، وهذا امرؤ فاشل يُزدرى.
والأسرة بلا ريب هي المهاد الأول لهذا التكوين الأدنى، إن الإنجاب المجرد ليس وظيفة الأسرة، فإن الدواب والطيور والزواحف تتناسل وتتكاثر، وميزة البشر أنهم يلدون ويعلمون ويربون، وعندما تفقد الأسرة قدرتها على حماية الطفولة وتزويدها بالخصائص الرفيعة فلا قيمة لنتاجها!
قال لي صديق: هذا صحيح، ولكن لماذا تفترض أسرة ذات رسالة في أمة نسيت رسالتها؟ على الأمة أولاً أن تحترم لغتها وصلاتها وانتماءها الديني الصريح وشارتها التي تتميز بها بين شعوب الأرض، ونحن أمة نسينا لغتنا وآدابها، وتذكر الإسلام في ذيل القائمة إن ذكرناه بعد الانتماء الأفريقي أو الآسيوي أو..
فقاطعت صديقي على عجل قائلاً: لا أريد البت في قضية هل الدجاجة من البيضة أو البيضة من الدجاجة! إنني مصدقك في أن الاضطراب العام يلقي ظلاله السود على البيت وتأديب الأولاد.
ينبغي أن نذكر الدولة بما عليها وقبل ذلك يقوم الآباء والأمهات بواجبهم داخل البيت، فإذا عرض التلفاز قصة سخيفة أو منظراً خليعاً قام الأب أو الأم بإطفائه للفور، واستنكار ما حدث، والأب المدخن لا يلومنَّ إلا نفسه إذا قلده أولاده في تناول سموم الدخان.. ومن الخير أن تكون الكلمات المتبادلة نظيفة عالية المستوى، فإذا هبطت فلا يستغربن الآباء أن تجري على أفواه أولادهم كلمات نابية.
إننا إلى اليوم نتواضع على إنفاق مال كثير في فستان فاخر أو في وليمة تكون موضع الإعجاب، أما في إنشاء مكتبة منزلية ثمينة فأمر لا يخطر بالبال، ونحن ندع للطريق العام ولأصدقاء السوء فلذات أكبادنا كأن مستقبلهم لا يعنينا، وقد كنت أراقب أقوال الشباب المدمن فراعني أن كل واحد منهم ذكر أن الذي جره إلى تناول المخدرات صديق خدعه بكلمة ثم دفعه بعدها إلى النهاية المشؤومة.
والمقلق أن اليهود يربون أولادهم على نحو آخر، فالتاريخ العبري، وأحداث العهد القديم، والذكريات التي غيرت عليها عشرات القرون، واللغة التي نزعت عنها الأكفان وعادت إلى الحياة، والحماس الديني الملتهب، والتعاون الوثيق بين الزوجين في الحقل أو في المصنع أو في الإدارة، وتحديد ساعات اللهو لتكون عوناً على ساعات مضاعفة من العمل الشاق المثمر.. كل ذلك يكتنف التربية المنزلية والمدرسية، ويعد بني إسرائيل ليوم حاسم مع العرب التائهين.
_______________________________________________
من كتاب «قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والرافدة».