لا شك أن العلمانية هي النظام الذي انفرد بالعالم وهيمن عليه وقيّد أو قضى على كل الأنظمة الأخرى منذ أن انطفأ وهج الحضارة الإسلامية.. حضارة العدل الإلهي والحرية المنضبطة بشريعة السماء.
ربما يُلتمس بعض العذر للنخب الأوروبية الأولى التي لجأت للعلمانية ليأسها من سلطة كنسية جاهلة مستبدة، ونظم وراثية إقطاعية فاسدة متحالفة معها، ولكن هذا ليس مبرراً لاختيار الانتحار لمجتمعهم.
مصادمة الفطرة
النخب الفكرية الأوروبية لم تبرر الرذيلة فقط، بل زينتها وجمَّلتها لمجتمعاتها، وكان الأولى بها أن تبحث عن الحق عندما ثبت لها بالأدلة العلمية القاطعة فساد الكثير من معتقداتهم الدينية، لكنها اختارت الحل الأسهل؛ وهو اختيار نقيض الدين، وتحقق فيهم قول المولى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية: 23)، وكأن الآية الكريمة نزلت فيهم خاصة؛ فقد اتخذ الغرب إلهه هواه، فضلَّ ضلالاً مبيناً، وهو يحسب أن هذا الضلال هو العلم.
العلمانية تستغل منع الطلاق عند الطوائف المسيحية لتدمير الأسرة تدميراً كاملاً
نظرة العلمانية للزواج
كان للعلمنة تأثير كبير على الأدوار التي يقوم بها الزواج التقليدي؛ الذي أصبح مرفوضاً في نظر العلمانية، ويُنظر إليه الآن -في الإطار العلماني- على أنه عقد حب وصداقة وثقة بين اثنين، غالباً ما يؤدي إلى الانفصال إذا فشل الطرفان في الاستمرار طوال فترة الزواج.
يلاحظ هنا أن العلمانية تستغل منع الطلاق عند الطوائف المسيحية المختلفة لتدمير مؤسسة الأسرة تدميراً كاملاً، وخلعها بالكامل من جذورها.
ويلاحظ أيضاً أن تعريفات الزواج الحديث لا تتحدث عن زواج رجل وامرأة، لكنها تسميه «عقد حب وصداقة وثقة بين اثنين»؛ ولذلك أصبحنا نسمع عن عقود زواج معترف بها حتى من بعض الكنائس لرجل برجل، وامرأة بامرأة!
وسائل هدم الأسرة
العلمانية ليست مجرد دعوة أو حتى دين وضعي، لكنها نظام يحكم العالم ويتحكم في كل صغيرة وكبيرة، وقد أصدرت قراراتها بالفعل باستئصال الأديان، أو حصرها في أديرتها ودور عباداتها، وبتدمير مؤسسات تلك الأديان وعلى رأسها الأسرة.
معدل الزواج بالولايات المتحدة انخفض بنحو 60% على مدى العقود الخمسة الماضية
وهذه بعض وسائل الهدم والتدمير التي تستخدمها العلمانية لتدمير الأسرة:
1- المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة:
نجحت العلمانية في إقناع بعض المجتمعات بوجوب المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في كل شيء؛ في السياسة، والعمل، والحياة الاجتماعية، وكل الحقوق.
وهذا مصادم لكل من الفطرة والواقع؛ (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) (آل عمران: 36)، وقدرات الرجل تختلف اختلافاً كاملاً عن قدرات المرأة، فماذا جرى للمرأة بعد أن ابتلعت طعم المساواة الكاملة؟ انخفض معدل الزواج في الولايات المتحدة بنحو 60% على مدى السنوات الخمسين الماضية؛ لأن كلاً من الرجل والمرأة أصبحا لا يريان لزوماً للزواج؛ ففوائد الزواج تتضاءل، كما يقول عالم الاجتماع في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية «أندرو شيرلين».
2- عمل المرأة أهم من بيتها:
أقنعت العلمانية الغربية المرأة بأنها لا بد أن تعمل، وتعتبر دورها في الأسرة دوراً ثانوياً، بل غير مهم، فالأولوية لعملها خارج المنزل.
وأصبحنا نجد المرأة المتزوجة والعازبة تتجشم المصاعب والمتاعب وتتحملها برضا؛ فتواجه برودة الطقس وازدحام المواصلات، لتعمل في وظيفة لثماني ساعات في اليوم، فتتحمل العمل بمزاياه وعيوبه، لتعود في آخر اليوم متعبة لتجد أطفالها بحاجة إلى رعاية وجهد وطعام؛ ما يعني أن مسؤولياتها تضاعفت؛ فتصبح متوترة لأنها تحس بتقصيرها في منزلها، أما العمل خارج المنزل فهي مضطرة لتأديته بكفاءة لأن النتيجة هي العقاب لو قصرت.
الحركات النسوية تسعى إلى ترسيخ مبدأ فصل الجنس عن مؤسسة الزواج كهدف أساسي لها
أما بالنسبة للمرأة العازبة، فهي أيضاً مضطرة للعمل حتى تواجه تكاليف معيشتها من سكن، ومواصلات، ومأكل، وملبس.
3- الجنس الرخيص:
في كتاب حديث بعنوان «الجنس الرخيص»، يثبت «مارك ريجنيروس»، عالم الاجتماع الأمريكي، أن الزواج في أمريكا يتراجع بشكل مخيف، ويذكر إحصائية مذهلة أجريت في الولايات المتحدة الأمريكية: في عام 2000م، كان 55% من الرجال البالغين متزوجين و34% غير متزوجين، بينما في عام 2015م كان 42% متزوجين و52% غير متزوجين؛ أي أن الزواج تحول في غضون 15 عاماً من كونه ظاهرة أغلبية إلى أقلية.
وهذا ينطبق أيضاً على المملكة المتحدة وأوروبا الغربية، ولا يوجد سبب، كما يقول «ريجنيروس»، للاعتقاد بأن الاتجاه سيتغير إذا لم يتم إضفاء الطابع المؤسسي على الزواج في الغرب؛ فما جمعه الله تعالى هدمه العلمانيون.
والجنس الرخيص يجذب كلاً من الرجل والمرأة، خصوصاً بعد أن انقطعت صلاتهم بالله عز وجل، وبالحلال والحرام، فما الذي يُكره الرجل على تحمل مسؤولية أسرة، وهو يستطيع أن يفرغ طاقته بشكل أرخص؟ ولماذا تتعب المرأة في البيت وفي خارج البيت إن كانت تستطيع إشباع حاجاتها بطرق وأشكال غير مكلفة؟!
4- تخلي الدولة عن دورها في الحفاظ على الأسرة:
تحاول العلمانية إقناع النظم السياسية أن ما يحدث في غرفة النوم مسألة خاصة جداً ولا ينبغي التدخل فيها بحال، وهذا غير صحيح ولا يصمد للمناقشة العقلانية العلمية.
العلمانية تعمل على تدمير ما تبقى من دين وتماسك أسري خصوصاً في بلاد المسلمين
في عام 1970م، كتبت «كيت ميليت» كتاباً رائداً بعنوان «السياسة الجنسية»، قالت فيه: إن «الزواج والأسرة أساس للصحة الشخصية والمدنية، وهذا أساس من أسس السياسة»، لكن الحركات النسوية تحارب ذلك عن طريق وضع «فصل الجنس عن مؤسسة الزواج» كهدف أساسي لها، وبالفعل أدت تلك السياسات في الغرب إلى زيادة معدلات الطلاق، وانخفاض معدلات الزواج (التقليدي)، وزيادة معدلات المعاشرة خارج إطار الزواج، والزواج من نفس الجنس.
5- إعادة تعريف الزواج:
مكتوب على موقع الأمم المتحدة: «وفقاً لتغيير كبير في سياسة الأمم المتحدة، ساري المفعول منذ 26 يونيو 2014م، قررت الأمم المتحدة الاعتراف بزواج أي زوجين من نفس الجنس يتزوجان في بلد يكون فيه الزواج من نفس الجنس قانونياً»، وهذا تصريح خطير وتدخل صارخ لصالح العلاقات الشاذة، ومعول هدم يضاف لمعاول الهدم الأخرى التي تستهدف الأسرة.
6- تقليل قيمة الأطفال:
في الولايات المتحدة وأغلب دول الغرب، فرضت قبول الإجهاض دون قيود كحق من حقوق الإنسان، وفرضت الزواج من نفس الجنس، بل فرضت عقوبات على من يعترض على هذا العبث، ولا يخفى على لبيب ماذا يعنى هذا.
وقد وجدت دراسة أجرتها جمعية خدمات رعاية الأطفال (CCSA) في عام 2021م أن 1.3 مليون رضيع وطفل صغير ومرحلة ما قبل المدرسة يعانون من التشرد كل عام؛ بسبب تفكك الأسر، وماذا تفعل الدولة للأطفال، حتى لو كانت بقوة وغنى الولايات المتحدة، إذا ما تخلى عنهم ذووهم؟
قارن هذا بالضرورات الخمس للشريعة الإسلامية، وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل.
والخلاصة أن العلمانية المفروضة على العالم اليوم بالقوة، نظام مدمر للأسرة وللمجتمع، دمر الدين ودمر الأسرة في بلاد الغرب، وها هو يعمل على تدمير ما تبقى من دين ومن تماسك أسري في أنحاء العالم، وخصوصاً في بلاد المسلمين التي ما زالت تستعصي عليهم وتتحدى مخططاتهم.