د. عبدالحليم عويس
كنتم خير أمة لأكثر من عشرة قرون، كنا (كما يقول ول ديورانت، صاحب «قصة الحضارة») أساتذة العالم، وكنا المثل الأعلى لكل الحضارات، وكانت جامعاتنا ومكتباتنا تكاد تكون الوحيدة الجديرة بالاحترام.
أما أوروبا في العصور الوسطى فكانت في قاع الظلام، حتى احتاجت إلى «تنوير» يرفض الدِّين؛ لأنه وقف عدة قرون ضدّ العقل؛ فانقلبت، بالتالي، من الدين إلى اللادينية والعلمانية، هذا بينما ازدهرت حضارتنا على أساس التكامل بين الدين والعلم والوحي والعقل!
فكيف حدث هذا الانقلاب في حياتنا بعد القرون العشرة التي سادت حضارتنا فيها؟ كيف وقع هذا الانتكاس الذي جعلنا في ذيل الأمم، حتى إن جامعاتنا المعاصرة، ومنها الأزهر، أصبحت خارج نطاق الخمسمائة جامعة الأولى في العالم؟
هل هي «طبائع الاستبداد» التي سيطرت على حكام ما بعد الحروب الصليبية التي انتصرنا فيها، فانخدعنا بالنصر العسكري الذي حققناه خلال قرنين ونصف القرن؛ وبالتالي تحول الحكام إلى فراعنة.. ونسوا الله.. وعاشوا للدنيا.. وباعوا الأمة والإسلام؟ ودخلت الشعوب، من جانبها، في غيبوبة الجهل والكسل والتواكل.
أجل، إن هذا صحيح.
لكن، من جانب آخر، هل نستطيع إعفاء الطوائف المؤمنة الغيورة على الإسلام؛ علماء وعامة، من مسؤوليتها، أو هي شريك أساسي في هذه الانتكاسة؟
«خير أمة» أمة واحدة نعم، إنها شريك أساسي؛ لأنها استمرأت الاستبداد، وأسقطت المعاني الشمولية للجهاد، ونسيت الجهاد العلمي والحضاري والدعوي، وأصبحت في وادٍ وسنن الله الكونية والاجتماعية في وادٍ، لقد كلّت منها السواعد، فدخلت في مرحلة القابلية للاستعمار، فهي تُبرِّر الخنوع للطغيان، سواء كان داخليًّا أم خارجيًّا، وهي تتكيّف معه، وتدرِّب أبناءها على الرضا به.
لقد رضينا باليأس من اللحاق بالدول المتقدمة، وآثرنا الخاص على العام، والعاجل على الباقي، وأعطينا الإسلام فُتات أموالنا وجهودنا، وخدعنا أنفسنا ببعض النوافل، وانفصلنا عن أسلافنا الذين تعاملوا مع الإسلام بالعقل والقلب والوجدان كله؛ فاستحقوا أن يكونوا خير أمة.
ومع ذلك، فالطريق إلى استئناف الخيريّة واسع ميسور، لو صحت منا العزائم والنيات، وبدأنا السير من نقطة البداية الصحيحة والوحيدة التي حددها الله لنا: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11).
في كل يوم تتجه ملايين الأكف الضارعة والجباه الساجدة إلى الله تعالى تسأله إصلاح شأن المسلمين وتمكينهم في الأرض وتدمير أعدائهم، دون أن يدركوا أن الدعاء يجب أن يصحبه عمل -إلا للعاجزين- ودون أن يدركوا أنه في غزوة بدر الكبرى (2هـ) كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الله تعالى وهو في قلب المعركة!
ولهذا، فمنذ خمسين سنة، والحالة تنحدر من سيئ إلى أسوأ، على الرغم من وجود ومضات ضوء ومبشرات كثيرة تؤكد امتداد الإسلام خارج العالم الإسلامي، عند قومٍ قد يستبدلهم الله بنا، بعد أن تولينا!
أما في داخل العالم الإسلامي، فما زالت الأزمة الحضارية قائمة، فالخبث هو الأكثر والأعمّ، والاستبداد موجود يزداد ضراوة، والبحث العلمي قد ذبلت ميزانياته، فلم تعد تفيد شيئًا، والشهادات ومؤهلات التحصيل العلمي الجامعي والعالي أصبحت كلها مجرد أوراق يفرح بها أصحابها، لكنهم لم يستطيعوا توظيف المعرفة لتطوير أنفسهم أو مجتمعاتهم. ولا طريق للعودة إلى خير أمة إلا بعد امتلاكنا لمؤهلات الخيرية، الأصيلة والمعاصرة.
___________________________
من مدونة د. عبدالحليم عويس.