تتوق نفس كل مسلم للحج، من حج منهم ومن لم يحج، فقد أودع الله تعالى في قلوب المسلمين المحبة والمهابة لبيته الحرام استجابة لدعوة أبينا إبراهيم عليه السلام ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ (إبراهيم: 37)، وقد كان أبو حنيفة يفاضل بين العبادات قبل أن يحج، فلما حج قرر أن الحج هو أبو العبادات؛ لأن العبادات منها ما هو بدني محض كالصلاة والصيام، ومنها ما هو مالي محض كالزكاة، ومنها ما يجمع بينهما وهو الحج، وفيه أيضاً معنى الهجرة والجهاد في سبيل الله، وإذا كان لا مفاضلة بين الحج وبقية العبادات فلا مفاضلة بين من حج ومن لم يحج، ولكننا نهدف من هذا المقال إلى تقريب غير الحاج من ثواب الحاج بالاجتهاد في العبادة في عشر ذي الحجة.
الجوامع المشتركة بين الحاج وغير الحاج
المتأمل في أعمال الحج يلحظ جملة من المشتركات والروابط بين الحاج وغير الحاج، مثل: الأضحية والهدي؛ فالحاج يذبح هديه بمنى، وغير الحاج يذبح أضحيته في بلده ليعيش معاني الفداء والتضحية لهذا الدين ويقتدي بأبينا إبراهيم عليه السلام.
والوقوف بعرفة وصيامه؛ فالحاج يقف على عرفة ملبياً وداعياً لا يجوز له الصيام لئلا ينشغل بمشقته عن الاجتهاد في العبادة والدعاء، وغير الحاج يعيش بركات ونفحات يوم عرفة بالصيام والدعاء في بلده، والتلبية والذكر؛ فالحاج نشيده في الحج التلبية وغير الحاج نشيده التكبير، وغير الحاج يتشبه جزئياً بالمحرم في ترك الأخذ من الشعر والظفر من أول ذي الحجة إن كان مضحياً، والحاج يعود بحجه صفحة بيضاء نقية كيوم ولدته أمه، وغير الحاج يتحقق له كامل الإعتاق حتى الشعر والظفر الذي سيقصه قبل يوم النحر، ويسن لغير الحاج توديع الحاج وطلب الدعاء منه، واستقباله والدعاء له بالقبول والمغفرة وإخلاف النفقة، كل هذا ليعيش غير الحاج مع الحاج معاني الحج ويأخذ طرفاً من الأجر الذي يأخذه.
هل المخاطب بمعاني الحج ومنافعه الحجاج وحدهم؟
المتأمل في حديث أركان الإسلام يلحظ أن جميع تلك الأركان ما عدا الحج يكررها كل مسلم يومياً كالصلاة، أو سنوياً كالصيام والزكاة، أما الحج فمرة في العمر ولا يقدر عليه أو يقوم به سوى نسبة محدودة معدودة من المسلمين، رغم أنه من أكثر العبادات التي يشتاق المسلمون لتكريرها وفعلها منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، ولا عجب فقد قرأنا ورأينا في القديم والحديث من حج ثلاثين حجة وستين حجة.
إن الحج عبادة زاخرة بالمقاصد والمعاني التي لو عاشها المسلمون حول العالم لغيرت حالهم وواقعهم مع الله والناس، ولو نجح المسلمون في إظهار منافع الحج ومعانيه لكانت ورقة دعوية رابحة في التعريف بالإسلام وإظهار عالميته وعمق رسالته وحضارته، ولا يُتصور أن يقتصر الانتفاع بهذه المقاصد والمعاني على بضعة ملايين يحجون كل عام من أكثر من ملياري مسلم، وإنما المخاطب بها كل مسلم حج أو لم يحج وذلك بأن يتأمل ويتمثل الحاج تلك المعاني، وغير الحاج يتمثلها بإحياء واغتنام عشر ذي الحجة، فبوسع غير الحاج أن يقترب باغتنامه لعشر ذي الحجة من ثواب الحاج وأجره، وأن يجعلها موسماً ربانياً يزكي فيها نفسه ويطهر قلبه.
خطر الغفلة عن عشر ذي الحجة
يحتاج المسلم في عالم اليوم إلى استثمار واغتنام المواسم الربانية لتزكية نفسه، وتطهير قلبه ومحو الران من عليه، بعد طغيان المادية وطوفان مشتتات القلب ومنغصات الروح، ومن أعظم المواسم الربانية والنفحات الإيمانية عشر ذي الحجة التي لا أدري كيف لمسلم لا يكون بين الحجيج أن يغفل عنها، ولهذا فاضل العلماء بينها وبين العشر الأواخر من رمضان، وقطع ابن رجب الحنبلي بأن عشر ذي الحجة أفضل واستدل برواية فيها: «ولا ليالي خير من لياليهن»، كما استدل بعض العلماء على تفضيل عشر ذي الحجة بأنها فضلت بيوم عرفة وهو يوم معلوم على التعيين حيث يوافق التاسع من ذي الحجة، وأما ليلة القدر فليست معينة في العشر الأواخر من رمضان، وتوسط ابن تيمية فرأى أن أيام العشر أفضل وليالي العشر الأواخر أفضل، والمفاضلة لا تكون إلا بين المتماثلاث.
ويكفي في فضلها أن الله تعالى أقسم بها في كتابه الكريم فقال: ﴿وَالْفَجْرِ {1} وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ (الفجر)، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر»، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء» (أخرجه البخاري).
كيف يُحصِّل غير الحاج ثواب ومنافع الحج؟
أهم الأعمال التي يقترب بها غير الحاج من ثواب الحاج ما يلي:
– التوبة والنية الصالحة: فبالتوبة يتخفف الإنسان من الذنوب التي تثقل كاهله في سيره إلى الله، وبالنية الصالحة يكسب الأجر وإن لم يتمكن مما عزم عليه لمرض أو موت، فنية المرء خير من عمله.
– الصيام: فقد ثبت في بعض الروايات الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم صام الأيام التسعة من ذي الحجة، ويمكن صيام بعضها، ومن ترك صيامها كلها فليس أقل من أن يصوم يوم عرفة؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده»، وقد أفاد بعض العلماء من الحديث أن من صامه يعيش بعده سنة؛ لأن التكفير يلزم منه وقوع ذنوب تكفر بالصيام.
– الأضحية: وهي سُنة للقادر عليها، وقد جاء في فضلها ما أخرجه الترمذي بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما عمل آدمي يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إهراق الدم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً».
– الذكر تحميداً وتكبيراً: قال تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾ (الحج: 28)، وجمهور العلماء على أن الأيام المعلومات هي العشر، ومن السنن المهجورة ترك التكبير فيها، ويمكننا التكبير مع أولادنا في البيوت، وفي سياراتنا الخاصة، وصيغة التكبير: «الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد».
– عموم الأعمال الصالحة: كقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والصدقة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.