اعتنى القرآن الكريم اعتناءً فائقاً، وركز تركيزاً بالغاً في توعية الفرد المسلم بحقيقة الدنيا، ولا يزال القرآن الكريم والسُّنة النبوية يذكران النصوص التي تحذر من الانجرار مع الدنيا، والاغترار بزينتها، والركون إليها، والدَّعة إلى ظلالها، وقد قرر القرآن الكريم والسُّنة النبوية أن الدنيا لعب ولهو، وهي كمثل الزرع اليابس الذي نزل عليه المطر من السماء فاخضر ثم يبس فأصبح هشيماً؛ ولذلك قررت السُّنة النبوية بكل وضوح وصراحة قِصر الدنيا، وتضاؤلها في جنب الآخرة، «وهذه التعبيرات البيانية تدلّ على أن زخارف الدنيا وبريقها الخادع يُعدّ أحد الموانع الكبيرة للتكامل المعنوي والصعود في درجات الكمال للإنسان، وما دام هذا المانع موجوداً؛ فإنّه لا يصل إلى شيء من هذه الكمالات المعنوية». (د. عبدالعزيز بن صالح الدعيلج، من أسرار التنوع القرآني في أحوال الحياة الدنيا، ص 15).
من مقوِّيات الإيمانِ معرفةُ حقيقةِ الدنيا، وأنّها مهما طالتْ فهي إلى زوالٍ، وأنّ متاعَها مهما عَظُمَ، فإنّه قليلٌ حقيرٌ، قال تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس :24)، إنّ الآية الكريمةَ السابقة فيها عشرُ جملٍ وقعَ التركيبُ من مجموعها، بحيثُ لو سقطَ منها شيءٌ اختلّ التشبيه، إذ المقصودُ تشبيهُ حالِ الدنيا بسرعةِ تقضّيها، وانقراضِ نعيمها، واغترارِ الناس بها، بحالِ ماءٍ نزلَ من السماء، وأنبتَ أنواعَ العشب، وزيّنَ بزخرفه وجهَ الأرضِ، كالعروس إذا أخذتْ الثيابَ الفاخرة، حتى إذا طمع أهلُها فيها، وظنّوا أنّها مسلمّةٌ من الجوائح، أتاها بأسُ اللهِ فجأةً، فكأنها لم تكن بالأمسِ. (مباحث في إعجاز القران، ص 216).
وأخبرنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً) (الكهف: 45)؛ أي: واضرب يا محمُّد للناسِ في زوالها وفنائها وانقضائها؛ أي: (مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) فيها من الحَبِّ، فشبَّ، ونما، وحَسُنَ، وعلاه الزهرُ والنضرةُ، ثم بعد هذا كله أي: يابساً أي: تفرِّقه وتطرحه ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ أي: هو قادرٌ على الإنشاء والإفناء.
وقال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد: 20)، يقول تعالى مُوهِّناً أمرَ الحياة الدنيا، ومحقّراً لها أي: تفريجُ نفسٍ أي: باطِلٌ أي: منظرٌ جميلٌ أي: بالحسبِ والنّسبِ أي: مطرٍ أي: يُعْجِبُ الزرّاع ذلك (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ)، فإنّهم أحرصُ الناس عليه، وأميلُ الناس إليه أي: ثم يجفُّ بعد خضرته (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً)، وتراه مصفرّاً، أي: من اليبس أي: ثمّ يكونُ بعد ذلك كلّه (ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً)، أي: هشيماً منكسراً، وكذلك الدنيا لا تبقى، كما لا يبقى النباتُ الذي وصفناه، ولمّا كان هذا المثلُ دالاً على زوال الدنيا، وانقضائها لا محالةَ، وأنَّ الآخرة كائنةٌ واتيةٌ لا محالةَ، حذّرنا الله تعالى من أمرها، ورغّبنا فيما فيها من الخيرِ، فقال تعالى: أي: وليس في الآخرة الآتيةِ إلا: إمّا هذا وإمّا (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ)، أي: إمّا عذابٌ شديد، وإمّا مغفرة من الله ورضوان، وقوله تعالى: أي: هي متاعٌ زائلٌ يغرُّ ويخدعُ مَنْ يركنُ إليها وإلى (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)، فيغترّ بها، وتعجّبَ ممن يعتقدُ أنّه لا دارَ سواها، ولا معادَ ورائها، مع أنها حقيرةٌ قليلةُ المتاعِ بالنسبة إلى الدّار الآخرة.
إنّ هذه الحقيقةَ التي أشارت إليها الآيات الكريمة، هي حقيقةُ الدنيا بكلِّ متاعها وزينتِها، وما تشتهيه النفسُ منها، وإنَّ كلَّ ذلك بالنسبة لنعيم الآخرة شيءٌ تافه، وقليلٌ وزائلٌ، هكذا فهم المسلمون حقيقةَ الدنيا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبصّرهم، ويذكّرهم بدورهم ورسالتِهم في الأرض، ومكانتِهم عند الله، وظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم على هذه الحال من التبصير والتذكير حتّى انقدحَ في ذهنهم ما لهم عند الله، وما دورُهم وما رسالتُهم في الأرض، وتأثراً بتربيته الحميدة تـولّد الحمـاسُ والعزيمـةُ في نفوس أصحابه، فانطلقوا عاملين بالليل والنهار بكلِّ ما في وسعهم وما في طاقتهم دون فتور أو توانٍ، ودون كسل أو ملل، ودون خـوفٍ من أحـدٍ إلا الله، ودونَ طمعٍ في مغنـم أو جـاه، إلا أداء هـذا الـدور وهذه الرسـالـة لتحقيق هذه الغـايـة في الدنيا، والفوز والنجاة في الآخرة. (منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في غرس الروح الجهادية، ص 19-24).