في أمسية أقامتها ندوة العلماء بمدينة لكنؤ الهندية..
د. القرضاوي يروي ذكرياته مع الشيخ الندوي وندوة العلماء:
أحببت الشيخ الندوي قبل أن أراه وتمنيت الانتساب لندوة العلماء قبل أن أزورها
في الأمسية الشعرية التي أقامتها ندوة العلماء في لكنؤ بتاريخ 20 سبتمبر 1996م؛ تكريماً للأديب الشاعر والفقيه العالم د. يوسف القرضاوي، تحدث فضيلة الشيخ، حفظه الله، عن قصته مع الشيخ أبو الحسن الندوي، هذا العالم الرباني، فقال: “عرفت الشيخ أبو الحسن منذ خمسة وأربعين عاماً، حينما سعدنا بزيارته للقاهرة عام 1371هـ/ 1951م، ومنذ لقيت الشيخ في القاهرة وعرفت فيه الأديب، بل عرفت فيه العالم الأديب قبل أن ألقاه، فقد يسَّر الله لي أن أقرأ كتابه النافع “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟”، وأحببت الكتاب وصاحبه دون أن أعرف عنه شيئاً سوى أنه عالم هندي.
ثم تحدث د. يوسف القرضاوي، الذي كان يشد السامعين بحديثه العذب، عن وصول الشيخ الندوي إلى القاهرة، وأين نزل، وأول لقاء له مع الشيخ، فقال: وما هي إلا أيام حتى وصل الشيخ الندوي ومعه اثنان من إخوانه؛ أحدهما الشيخ معين الندوي، وسكنوا في شقة متواضعة في زقاق من أزقة شارع الموسكي بحي الأزهر، فالشيخ لا يقدر على سكنى الفنادق، وهذه طبيعته –حفظه الله– كان الشيخ حين زار مصر في شرح الشباب، لحيته سوداء، وجهه نضر، عزمه فتى، وغيرته متوقدة، كان يحمل حماس الشباب وحكمة الشيوخ.
ويواصل د. القرضاوي: ذهبت لزيارة الشيخ في مسكنه المتواضع أنا وأخي ورفيقي محمد الدمرداش مراد، رحمه الله، رفيقي في الدعوة، ورفيقي في الدراسة، ورفيقي في المحنة، وأذكر أن الشيخ أعطاني بعض رسائله، مثل: “بين الصورة والحقيقة”، و”معقل الإنسانية”، و”من العالم إلى جزيرة العرب”، و”من جزيرة العرب إلى العالم”، وفيهما يستنطق الشيخ ما يريده من جزيرة العرب من الهدى ودين الحق، وهو ما قدَّمته الجزيرة قديماً، ورد الجزيرة على هذا التساؤل، وهي رسائل تعبر عن حس رقيق، وفكر عميق، وبيان أنيق، وأذكر أن الشيخ الغزالي حينما قرأ هذه الرسائل علَّق تعليقاً ما زلت أذكره؛ إذ قال، رحمه الله: إن هذا الإسلام لا يخدمه إلا نفس شاعرة محلقة! وكأن الشيخ الغزالي يقول: إن كتابات الشيخ الندوي فيها نغمة الشعر، وجمال الشعر، وروح الشعر، وإن لم تكن في قالب الشعر.
تأسيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية
ثم تابع القرضاوي حديثه عن دور الشيخ الندوي في الساحة الأدبية العالمية، وإسهامه في التعريف بشاعر الإسلام د. محمد إقبال، فقال: ولهذا لم أعجب أن يسعى الشيخ الأديب الندوي إلى تأسيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية مع إخوانه، التي كان وجودها يمثل حاجة ملحة في هذا الزمان؛ لتعرف الأمة النفس والكون والحياة والتاريخ من منظور إسلامي وبروح إسلامية، إننا في مصر لم نعرف د. إقبال على حقيقته إلا من محاضرات الشيخ، حفظه الله، فلم يستطع أحد أن يوصل شعر وروائع إقبال إلى العقول والنفوس فيأسرها ويسحرها سواه.
وعندما حاضرنا الشيخ في كلية دار العلوم عن روائع إقبال، لاقت المحاضرة إقبالاً وحفاوة هائلة، وكان لها دويّ رائع بين الأساتذة والطلاب، وكل ما نحفظ اليوم من شعر إقبال، هو ما كتبه الشيخ بنثره، وهي ترجمة حقيقية ذات روح وحرارة، لقد كانت أيام الشيخ أبو الحسن في مصر أياماً خصبة مباركة، لا يكاد يخلو يوم فيها من محاضرة عامة يُدعى إليها، أو درس خاص يرتب له، وهكذا تكرر لقاؤنا معه، نحن شباب الدعوة الإسلامية، أمثال د. العسال، والأخ الدمرداش.. وآخرين.
وتحدث د. يوسف القرضاوي عن لقاءات الشيخ الندوي بالعديد من الدعاة والعلماء والمفكرين في مصر، كالشهيد سيد قطب الذي قدَّم لكتاب “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟”، والشيخ الغزالي، وأ. البهي الخولي، وأ. صالح العشماوي، وغيرهم من العلماء العاملين.
ندوة العلماء
أما عن قصة د. القرضاوي مع ندوة العلماء وجامعتها المتميزة “دار العلوم”، فكان حديثه في الأمسية الوداعية التي كانت بعنوان “ندوة العلماء والدور المطلوب”، فقال: “أحببت ندوة العلماء قبل أن أراها، لكل مؤسسة رمز، يرمز إليها ويدل عليها، وكان الرمز الذي دل عليها وجعلنا نحبها ونعشقها قبل أن نراها –والأذن تعشق قبل العين أحياناً كما قال الشاعر العربي– كان هذا الرمز هو الشيخ أبو الحسن، فقد سعدنا به في مصر عام 1951م، وعرفنا آنذاك أنه ينتسب إلى الندوة، التي تأسست في هذه الديار الهندية، وشعارها الاستفادة من كل قديم نافع، والترحيب بكل جديد صالح، وتقوم على النهج الوسطي، وتدرس اللغة العربية وآدابها، والأخذ مما صفا من التراث، وترك ما كدر منه، وهكذا أحببنا ندوة العلماء من حديث الشيخ أبو الحسن الندوي وعشقناها قبل أن نراها، وازددنا لها حباً حينما قرأنا وصف من زاروها، ومن هذه الأوصاف ما كتبه الأديب العربي الإسلامي العلامة الشيخ علي الطنطاوي الذي كتب عن ندوة العلماء بأسلوبه الرقيق العذب: “كم أتمنى لو رددت إلى عهد الصبا فأعود لأتعلم في هذه الدار، وأتتلمذ على شيوخها، وأرافق طلابها، وأتنفس في رحابها، وأقتبس منها العلم والإيمان، فأحيا حياة جديدة بقلب وأمل جديد”.
ثم تابع د. يوسف القرضاوي الحديث عن ندوة العلماء وزياراته لها وإعجابه لها وإعجابه بها، فقال: وهفا قلبي لزيارة ندوة العلماء، وتمنيت ذلك اليوم الذي أزور فيه تلك الدار المباركة، وأنتفع برؤية شيوخها وطلابها وساحاتها، حتى هيأ الله لي فرصة عام 1975م بدعوة كريمة من سماحة الشيخ الندوي لحضور المهرجان لندوة العلماء بمناسبة مرور 85 عاماً على تأسيس الندوة، وحضرت مع من حضر من العلماء والدعاة والشيوخ وأهل الفضل –حضرنا في هذه الدار– فلما رأيناها وعايشناها صدق الخبر وأنشدنا مع الشاعر القديم:
كانت محادثة الركبان تخبرنا
عن جعفر بن رياح أطيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت
أذني بأحسن مما قد رأى بصري
بل رأينا بأبصارنا أحسن مما سمعنا بآذاننا، رأينا هذه الدار فيها نفحات لا توجد في ديار أخرى، وهذه النفحات الروحية سر من أسرار الله تبارك وتعالى، ولعلها آثار من آثار الإخلاص، وأذكر أنني قلت في كلمتي التي ألقيتها في المهرجان التعليمي عام 1975م: “إن في هذه الدار روحاً لا توجد في غيرها، وإن هذه الروح تظهر بالنية الصادقة، وفي الاحتساب عند الله، وفي الزهد في الدنيا وركلها بالأقدام..”.
ثم علق د. القرضاوي فقال في المدارس والجامعات الأخرى: قد تجد المنهج الجيد ولكنك لا تجد المعلم الجيد، وإذا وجدته جيداً في الجانب العلمي تجده ميت القلب جامد الروح في الناحية الإيمانية والتوجيهية، وهكذا، فالفرق شاسع بين صاحب الوظيفة وصاحب الرسالة!
وختم الدكتور حديثه عن ندوة العلماء قائلاً: مما عرفناه عن هذه الدار حينما زرناها تلك اللوحة التي كتبها العلاَّمة الشيخ أبو الحسن وإخوانه للتعريف بهذه الدار، وكان مما قالوه في هذه اللوحة: إن العلم لا ينقسم بين جديد وقديم، ولا بين شرقي وغربي، إنما ينقسم إلى نافع وضار، وصواب وخطأ، وأصول وفضول وغايات ووسائل.
ثم دعا الشيخ لهذه الدار والقائمين عليها بالثياب والبركة، وللمسلمين بالنصر أينما كانوا.
العدد (1227)، ص56-57 – 26 رمضان 1417هـ – 4/2/1997م.