يبدو وجْهُ الشبه الوحيد بين العلمانية ومقاصد الشريعة من كونهما نظريتين ذواتي رؤية متعلقة بالحياة الإنسانية وقضاياها المختلفة؛ ومن ثَمَّ فقد تلتقي العلمانية مع مقاصد الشريعة، دون أن يتفقا بالضرورة في بعض الوسائل وفي شِقٍّ من الغايات، ولكنهما يختلفان اختلافاً كلياً في المنطلقات المرجعية وفي جوهر الغايات وغالبية الوسائل الموصِّلة لتلك الغايات.
ولعل من أهم معايير التمييز المنهجي بين العلمانية ومقاصد الشريعة معيار النشأة والتطور؛ فليس ثمة خلاف أو شك من حيث المبدأ في أقدمية مقاصد الشريعة وجوداً؛ نظرية وتطبيقاً، وأسبقيتها على النظرية العلمانية، وتحديداً خلال القرون الأولى التي شهدت تجاوباً واسعاً مع تحديات الحياة الحضارية، وما فرضته هذه التحديات من متطلبات إعمال النظر والتفكير والتجديد والتطوير الذي يلبي احتياجات الحياة ويحقق مصالح العباد على أضواء مقاصد الشريعة الغراء.
إنَّ المصادر الإسلامية تفيد بأنَّ فكرة المقاصد كانت آليةَ إعمال عقلي ووجدان مرتبطة بوجود الأمة المسلمة منذ مرحلة التأسيس خلال عصر النبوة وما تلاه من عصور، ثم جاء علماء الأمة لوضع مفهوم المقاصد في دائرة التنظير والتأطير، ومن خلال الاستقراء المطَّرد في الأدبيات الإسلامية، نستنتج أنَّه لم تخلُ السجالات العلمية المركزية في أي عصر من العصور من موضوع مقاصد الشريعة، ويأتي في طليعة هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولئك الذين «عرفوا مقاصد الشريعة فحصّلوها وأسَّسوا قواعدها وأصَّلُوها، وجالت أفكارهم في آياتها، وأعملوا الجد في تحقيق مباديها وغاياتها»(1)، وقد مهدوا مسيرة حياتهم وحياة مَنْ بعدهم بإيعاز من هذه المقاصد.
فكرة المقاصد آلية إعمال عقلي ووجداني مرتبطة بوجود الأمة المسلمة منذ التأسيس
ولقد مضت المقاصد ملحقة بفكر الأمة وضميرها وحركتها العلمية ومسالك عيشها عبر القرون الأولى؛ وتشير الدراسات إلى أنَّ حضور فكرة مقاصد الشريعة، كرؤية للحياة مستقاة من فهم الوحيين ومُستلهَمة من نصوصهما الحية، كانت موجودة منذ زمن متقدم؛ ولئن اشتهر أبو إسحاق الشاطبي (ت 790هـ/ 1388م) الغرناطي الأندلسي بالتضلع والريادة في علم مقاصد الشريعة الإسلامية، فإن مقاصد الشريعة كانت مُعتبرة؛ لفظاً ومضموناً، في أدبيات العلماء الذين سبقوه؛ فمن قبله شرع نفرٌ من الأصوليين، كالجويني، وأبي حامد الغَزّالي، وغيرهما، في تقسيم المصالح إلى خمس ضرورية: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، ولقد كان الغزالي من أكثر الأصوليين الذين ذكرهم الشاطبي في موافقاته(2)، فقد ذكره أكثر من أربعين مرة في أغلبها موافقاً ومؤيداً ومستدلاً بآرائه، ومُحيلاً إلى كتبه، كما استفاد الشاطبي كثيراً من الرازي، والعز بن عبدالسلام، والقرافي(3).
فلسفة المصلحة بين مقاصد الشريعة والعلمانية:
تأتي قضية المصلحة في طليعة الموضوعات التي شهدت استقطاباً حاداً وجدلاً حقيقياً، ومن حيث المبدأ، ليس بوسعنا إنكار ما للنظرية العلمانية من غايات تتعلق بمصالح الناس، لكن يبدو الخلاف من حيث لفظ المصلحة وشكلها يسيراً، لكنَّ الخلاف الحقيقي حول اصطلاح المصلحة وتداعياته بين الفكرين الإسلامي والعلماني، هو ما يفسر ذلك الصراع الفكري الذي لم يهدأ ولن يهدأ أبداً بين الفريقين!
إذا كانت المقاصد التي يُنظر فيها أصلاً إلى مراد الشارع، ويُتحرى فيها رضاه سبحانه وتعالى، فقد أراد العلمانيون أن يجدوا من خلالها مدخلاً للتنصل من المرجعية القرآنية، فإن المصالح التي يُنظر فيها أصلاً إلى تقدير حال الإنسان وما يلائمه وما يصلحه(4)، نجد أنَّ كافّة جهود العلمانيين منصبّة باتجاه البحث في مبحث هذه المصالح والتوسع فيها بضورة لافتة، إمعاناً في تجويف هذا المدخل تسهيلاً للطعن والإلحاد في آيات الله وشريعته.
العلمانيون أرادوا من المقاصد إيجاد مدخل للتنصل من المرجعية القرآنية
إن المشكلة ليست في ضرورة اعتبار المصلحة، فالكل متفق على أن المصلحة هي مناط التشريع، ولكن المشكلة أي مصلحة نعني؟ ومتى نعد الشيء مصلحة؟ ومتى نعده مفسدة؟ ومتى نعده نفعاً؟ ومتى نعده ضرراً؟ ومتى نعده مصلحة راجحة؟ ومتى نعده مصلحة مرجوحة؟ ومتى نعده مصلحة حقيقية معتبرة؟ ومتى نعده مصلحة وهمية متروكة(5)؟ كذلك ما المعيار الذي يحكم المصالح؟ لأن ما يكون مصلحة لشخص قد يكون ضرراً لشخص آخر، وما يكون مصلحة لشخص في زمن قد يكون ضرراً له في زمن آخر؛ ومن ثَمَّ، فإنَّ اعتبار المصلحة، وفقاً لهذه الرؤية العلمانية، وتحرِّي شرعيتها ليس عن طريق مجرد «النظر في المصلحة المعاصرة ومدى موافقتها للشريعة، بل أن تنظر في المصلحة المعاصرة ثم تبحث في كيفية جعلها من مقاصد الشريعة! بل من الشريعة ذاتها»(6).
وتتحرف غالبية العلمانيين إلى أطراف الحديث حول المصلحة التي هي غاية مقاصد الشريعة لا بالمعنى الذي استقرت عليه أعراف علماء المسلمين عبر القرون، بل بمعنى: «إمكانية تجاوز الفهم الحرفي للنصوص والنظر إلى ما وراء هذه النصوص من حكمة ومن مقاصد»(7)، حيث ينحصر مفهوم مقاصد الشريعة عندهم في المفهوم الذي ينبغي أن «يتقدم على كافة النصوص، وإنَّ الدين عندهم، بما فيه مقاصد الشريعة، يتلخص جميعاً في جملة واحدة هي: مصلحة العباد»(8)، حسبما يراه أولئك العباد لأنفسهم لا حسبما استقرت عليه أعراف الشرع، وجرت به العادة المستقرة التي راعت المصلحة فلم تتخلف أبداً؛ ومن ثَمَّ، يذهب العلمانيون إلى أنَّ «كل ما حقق هذه المصلحة فهو شرع الله عنده، فتجارة الخمور والبغاء تحقق مصالح اقتصادية عظيمة، وتحريمها قديماً كان استجابة لظروف معينة»(9)!
وهنا ينبغي التأكيد على أنَّ «الفقهاء حين صاغوا نظرية المقاصد لحفظ الشريعة وأحكامها، ولا شك أن من مصلحة العباد حفظ الشريعة التي لا قوام للنفوس والأبدان إلا بها، أما العلمانيون فجعلوا من نظرية المقاصد، ومن الاعتبار بالمصلحة، أية مصلحة، تكأة لإفراغ الشريعة من كافة محتوياتها(10)»؛ فمثلاً يعتبر العلمانيون أن ما شرعه الإسلام بالنسبة للمرأة من أحكام كان بداية الطريق وفتح الباب، فالمقصد الإسلامي من تلك النصوص تحرير المرأة، وبالتالي فكل ما أعان على تحريرها فهو هدف ومقصد إسلامي(11).
المصالح عند العلمانيين شعارات لتحقيق مكاسب أيديولوجية بلباس إسلامي مزيَّف
ويبلغ التلبيس المصلحي مداه عندما يذهب خليل عبدالكريم إلى أنَّ الشورى شرعها الإسلام للحد من الدكتاتورية، إذن المقصد هو تحقيق العدل، فكلما تحقق هذا الهدف فهو مطلوب شرعاً كالديمقراطية(12)، فحيث تكون مصالح الناس فثم شرع الله تعالى(13)؛ وهكذا يمكن نسخ الإسلام كله، بل وقراءة كل المذاهب بما فيها الإلحاد بل والعلمانية فيه، بدعوى تحقيق مصلحة العباد(14)!
وهكذا، ننتهي إلى أن الخطاب العلماني حين يتجاهل القوانين والضوابط التي وضعها أهل المقاصد فليس من حقه أن يتكلم باسم المقاصد، لأن هذا لون من الافتئات الهزلي أو المراوغات الإلحادية، فلو راعى العلمانيون نظام المقاصد وقواعدها وقوانينها لما خرجوا بارتجالات عبثية ينسبونها إلى دين الله عز وجل؛ ولذلك فإن توظيف المقاصد من أجل تحقيق مصالح انتقائية دون ضوابط أو معايير ما هو إلا وسيلة لهدم الشريعة، وإقصاء القرآن الكريم عن القيادة والمرجعية، وتبرير للحلول التي تمليها المناهج الحديثة، وتمرير للقيم الوضعية التي تنشدها كافة التيارات العلمانية والإلحادية(15).
إنَّ ما يقدمه العلمانيون من مفاهيم كالمقاصد والمصالح وغيرها ليست سوى شعارات مُفرَغة من مضامينها(16)؛ بهدف تحقيق مكاسب أيديولوجية بلباس إسلامي مزيَّف؛ سعياً إلى إيجاد مساحات للحركة المريحة في الفراغ الفكري والثقافي للمجتمعات الإسلامية.
إنَّ المقاصد في ميزان الإسلام تابعة للنص وخاضعة له ولكل توابعه، كالسُّنة والإجماع والقياس والاستحسان وغير ذلك(17)، فضلاً عن كون هذه المقاصد مرتبطة أصلاً بحكمة إلهية بعضُها مُعلَن بينما بعضها الآخر غيبي مَرَدُّ تقديره إلى الحكيم العليم سبحانه.
المقاصد بالإسلام تابعة للنص وعند العلمانيين واحة للأهواء المنفلتة من ضوابط العقلانية
أمّا المقاصد، في النظرية العلمانية، فهي عبارة عن واحة الأهواء المنفلتة من ضوابط العقلانية المؤمنة، وساحة لتحقيق الأغراض المختلط في الحق بالباطل والمشروع بالممنوع، فوظيفة المقاصد هي إرخاء جفن الضمير عن مطالب الشهوات والنزول عند رغباتها وتلبية مطالبها من حِلٍّ وحرام بداعية المصلحة!
لم يَعُد لدينا أدنى شك في غايات المشاريع العلمانية في بلداننا العربية والإسلامية، لم تتوقف عبثاً عن تشويه الإسلام عقيدة ونظاماً، دعوة وفكرة، مدنية وحضارة وتاريخاً.. وكل ذلك ليس بغريبٍ ولا عجيب، بل معروف ومألوف!
وإنما تكمن حاجتنا في دورة تجديدية تعيد الإسلام إلى مركزية الفاعلية والتأثير الحضاري، وتتيح لقيمه الأصيلة فرصة الحضور في مواقع السلطة والثروة، وتمشِّط ساحته من حركة اللصوصية المشبوهة، وتمنعه من النخب الفرعونية المتنمرة، وتصونه من مضايق النفاقية المعيقة لكل منطق سديد أو توجه رشيد! وثم أبجديات تحقيق المصالح التي يتعيَّن علينا العمل من أجل امتلاك آلياتها الفاعلة اعتباراً بمقصد حفظ العقل من التخريف والتزييف وتحقيقاً لمصلحة الاتزان العقلي والتوسُّط الفكري!
______________________________________
(1) الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، جـ1، ص21.
(2) الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص254.
(3) الريسوني، المرجع السابق، ص254 و256.
(4) أحمد الحاج، العلمانيون والقرآن الكريم.. تاريخية النص، ص408.
(5) أحمد الريسوني ومحمد جمال باروت، الاجتهاد: النص الواقع المصلحة، ص33.
(6) فهد صالح العجلان، معركة النص، منشورات مجلة البيان، الرياض، 1433هـ، جـ2، ص68.
(7) عبدالمجيد الشرفي، تحديث الفكر الإسلامي، ص75.
(8) سيد القمني، انتكاسة المسلمين إلى الوثنية، ص29.
(9) خليل عبدالكريم، الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية، ص10 و11.
(10) مصطفى باحُّو السلاوي المغربي، العلمانيون العرب وموقفهم من الإسلام، ص285.
(11) خليل عبدالكريم، الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية، ص10 و11.
(12) خليل عبدالكريم، المرجع السابق، ص11 و12.
(13) المرجع السابق، ص10.
(14) مصطفى باحُّو السلاوي المغربي، العلمانيون العرب وموقفهم من الإسلام، ص285.
(15) أحمد إدريس الطعان الحاج، العلمانيون والقرآن الكريم، ص406، بتصرف.
(16) أحمد إدريس الطعان الحاج، المرجع السابق، ص418.
(17) المرجع السابق.