المشكل الأكبر الذي يواجهنا اليوم في شأن الفنون هو التوجه بها إلى الدين، وهو منشط يظاهر السياسة والاقتصاد والعلم وكثير من مقاصد الحياة التي انقطعت عن الوجهة الإسلامية، ومرقت من الأطر الشرعية، وإذا كانت الصحوة الإسلامية قد عبأتنا لندرك حجم الخطر الذي تمثله الفنون في تشكيل الوعي وتكوين الوجدان الإنساني، بل وباستطاعة هذه الفنون بإداراتها المختلفة وفنونها المتطورة، أن تحمل القضايا الإسلامية، وأن تنداح بها في الأرض، وأن تتعامل معها بلغة العصر ولسان العصر، الذي أصبح لا يعرف إلا “القرية العالمية” من خلال تكنولوجيا الاتصال والأقمار الاتصالية، والبث العالمي المباشر.
ولأن هذه الفنون اليوم قد أصبحت أمراً واقعاً لا جدال فيه، فإننا اليوم بصدد المناقشة المفتوحة للواجب المفروض على المسلمين في الاستفادة من هذه الفنون، واستغلال أدوات العصر الجبارة في خدمة الدعوة الإسلامية، وإقامة الحوار الحضاري، الذي يُلقي بالأسئلة الكبيرة في طريق الصحوة الإسلامية المعاصرة، ويحتم على أبنائها البحث عن إجابات متطورة، وقناعات متقدمة، تتسلل إلى العقل العالمي وتستحث البشرية بمخاطبة وجدانها عبر العرض النظيف والتسخير الشريف لهذه الأدوات العالمية، وإلا اعتبر المسلمون مقصرين بحق دينهم ورسالتهم وكانوا دون الأمانة التي حملوها.
وبالرغم من وجود محاذير شرعية ينبغي الوقوف عندها، فإن الأسئلة المطروحة بشدة التي تستحث المسلمين في البحث عن إجابات لها، دون تعمية أو دفن للرؤوس في الرمال: ما الفن الإسلامي؟ ومن يصنعه؟ ومن يموله؟ وما مجالاته؟ وما محاذيره الشرعية؟ وهل يخاصم الإسلام الفن من أجل ذاته؟ وكيف يمكننا تعبئة التكنولوجيا الاتصالية العالمية بديننا ومقاصد شرعنا الخالد، عبر فنون الكلمة والصوت والصورة، خاصة ونحن على أبواب ذلك الوافد الخطير، الذي لا يعرف حدوداً ولا قيوداً، “البث العالمي المباشر”.
ننطلق أولاً من دائرة الشرع لنجد فضيلة د. يوسف القرضاوي يقول: إن ضرورة التوجه والتوجيه لإعداد متخصصين في جوانب الحياة المختلفة قد أصبحت من أهم ضرورات العمل الحركي الإسلامي، ولا بد من إعداد الكفاءات في المواقع المهمة، خاصة في مجالات التربية والتكوين والدعوة والإعلام والفنون، تماماً كميادين العلم والفكر والصحة..
فمثلاً فيما يتعلق بالفنون الإعلامية، لا بد من إعداد المتخصصين الموهوبين في كتابة النص والسيناريو والإخراج والتنفيذ والتسويق والدعاية.. بل لا بد من التخصص الحرفي.. فمثلاً: الإخراج.. لا بد فيه من التخصص في الإخراج الإذاعي الذي يختلف بدوره عن الإخراج التلفزيوني الذي يختلف أيضاً عن الإخراج السينمائي والمسرحي.
ولكن السؤال الكبير الذي نطرحه أولاً هو: كيف يمكننا أسلمة هذه الفنون المعاصرة؟
– إذا أردنا أسلمة هذه الفنون، فلن يتحقق ذلك إلا بالمتخصصين القادرين على إيجاد البدائل الإسلامية لما هو واقع الآن، وأن الحركة الإسلامية غنية بالنوابغ من أبنائها، ولكنهم لا يوزعون التوزيع الجيد على المواقع المهمة والمؤثرة التي تحتاج إليها الساحة الإسلامية وإلى التوزيع العادل والضروري عليها.
فنحن لدينا تكديس في جانب من الجوانب كالطب مثلاً، أو الهندسة المعمارية، على حين نجد أنواعاً ومجالات أخرى من التخصصات العلمية النادرة لا يوجد فيها إلا أفراد قلائل أو لا يوجد فيها أحد قط، في حين أن هذه التخصصات وتلك المجالات والعلوم أوصل بالمجتمع وأكثر تأثيراً فيه، ونحن في أشد الحاجة إلى من يسد ثغراتها المفتحة علينا، ولعلك تلاحظ أن اليهود يكادون يسيطرون على كراسي هذه المجالات والفنون الإعلامية ويستأثرون بنصيب الأسد منها، ليقدروا على توجيهها لحسابهم الدنيء وأغراضهم الخبيثة كما يرون.
وما ضوابط الحلال والحرام فيما يتعلق بهذه الممارسات الفنية، وفيما يتصل بأدواتها المختلفة؟
– الشريعة الإسلامية من خصائصها المعلومة للجميع الخلود والشمول والعالمية والربانية والإنسانية، وهي مبنية على التيسير ورفع الحرج، وضوابط الحلال والحرام معروفة ومعلومة، ولا بد أن يكون واضحاً أننا أصحاب دعوة منضبطة محددة المعالم، وإذا تعارضت بعض أدوات الفنون أو بعض ممارساته مع الإسلام؛ فنحن بلا نقاش مع الإسلام أولاً وأخيراً.
وليس الطرح هو الإسلام والفنون، ولكنه أسلمة الفنون، إذا ما يمكنني من خلال خيالي الذي تشكل في ظل الإسلام، وإبداعي الذي نما في رحاب الإسلام، ما يمكنني أن أسهم به في هذا المجال فلا بد أن يكون –بلا ريب– قد نبت من تزيَّة إسلامية خالصة، والذي أراه أن كثيراً من الوسائل كالغناء والموسيقى، في ذاته لا حرج فيه، وهو داخل في جملة “الطيبات” التي أباحها الإسلام، وإنما الإثم هو فيما يشتمل عليه أو يقترن به من العوارض التي تنقله من دائرة الحل إلى الحرمة أو الكراهية التحريمية.
ولا ريب أن هناك أنواعاً من الغناء قد اتفق العلماء على تحريمها، وأخرى قد اتفقوا على إباحتها، وثالثة هي موضع النظر والاجتهاد، فأما ما اتفقوا على “تحريمه” فهو ما اشتمل على معصية أو دعا إليها، وأما “المباح” باتفاق فهو الغناء الفطري الذي يترنم به الإنسان لنفسه، أو المرأة لزوجها، أو الجارية لسيدها، ومنه حداء الإبل، ومثله غناء النساء المعتاد في الأعراس في مجتمعهن الخاص ونحو ذلك.. وما عدا ذلك فهو مما تختلف فيه الأنظار.
ومن القواعد المقررة أن ما أدى إلى حرام فهو حرام، وحيث لا تحايل على شرع الله، فالتحايل على الحرام حرام، والنية الحسنة لا تبرر الحرام أبداً، فمثلاً فيما يتعلق بالفنون لا تحايل أبداً على أن الاختلاط فيها حرام، ولكن في الحلال متسع؛ فأين هي إبداعات المسلمين ومساهماتهم؟!
نعلم أنه لفضيلتكم بعض المساهمات فيما يتعلق بالمسرح الإسلامي، فهل تعتبر هذه المساهمات دعوة عملية لوجود فن إسلامي نظيف؟
– أنا بدأت حياتي مع القلم بمسرحية شعرية كتبتها وأنا بالصف الأول الثانوي الأزهري تحت عنوان “يوسف الصديق” عام 1943م”، وللأسف فقد ضاعت مني أصولها، ثم كتبت مسرحية “عالم وطاغية”، وهي تتناول جهاد سعيد بن جبير رضي الله عنه مع الحجاج بن يوسف، وقد قام بتمثيلها مرات عديدة شباب المدارس والجامعات في المواسم الثقافية لهم في كثير من البلدان الإسلامية.
وأنا أدعو كل أصحاب المواهب المتميزة وأصحاب رؤوس الأموال الذين يريدون أن يسدوا هذه الثغرة المفتوحة على المسلمين إلى المساهمة في هذا المجال، ونحن نعلم أن هذه الفنون الآن -خاصة السينما– قد أصبحت من الصناعات الضخمة، ولا بد لها من مساندة ومساهمة العديد من العناصر والأدوات، وإذا ظللنا نغمض أعيننا ونتعامى فسوف يغمرنا الموج الفاسد والمدمر مع البث العالمي المباشر.
_______________________________________
العدد (1077)، ص 30-33 – بتاريخ: 17 جمادى الآخرة 1414هـ – 30 نوفمبر 1993م