تؤكد العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية أن الكثير من المشكلات الأسرية سببها غياب «الترويح»، وثقافة المرح بين الوالدين والأبناء؛ لزيادة التماسك والترابط، وكسر الملل والجمود.
هذا التحقيق يثير هذه القضية على أعتاب فصل الصيف، في محاولة لصياغة برنامج ترفيهي وممتع وهادف للأسرة.
يقول د. محمد غانم، رئيس قسم علم النفس بكلية الآداب-جامعة حلوان: إن الترويح الأسري ليس رفاهية أو أمراً هامشياً، كما قد يظن البعض، ولكنه أمر ضروري لكسر ملل وجمود الحياة، وخاصة إذا علمنا أن أوقات الفراغ تضاعفت في حياة البشرية أكثر من 4 مرات بسبب التقدم العلمي والتكنولوجي الذي وفر الجهد والوقت في حياة الإنسان وجعله أكثر راحة عن ذي قبل، ومع هذا تضاعفت همومه بسبب كثرة تطلعاته إلى تحقيق المزيد من وسائل الراحة والرفاهية وسيطرة الطموحات المادية على حياة الأسر مما جعلها أكثر احتياجاً إلى الترويح الذي يزيد من تماسكها العائلي، ويوفر فرصاً أفضل للراحة النفسية مما يزيد من فرص تفوق الأبناء وصلاحهم.
الترويح الأسري ضروري لكسر ملل وجمود الحياة
مكاسب عدة
وينبه غانم إلى أن الترويح الأسري يؤدي إلى الصحة النفسية واستثمار أوقات الفراغ في المفيد، فضلاً عن التشكيل الأفضل لشخصية أفراد الأسرة على اختلاف أعمارهم.
ويضيف: والغريب أننا أكثر الشعوب حصولاً على الإجازات التي تشكل نسبة مئوية لا يستهان بها طوال العام، ومع هذا نحن من أقل الشعوب حرصاً على الترويح الأسري، لهذا تجدنا نعيش في أزمات وتوترات أسرية مستمرة نتيجة أوقات الفراغ التي لم نحسن استثمارها لا في العمل فيزيد دخل الأسرة مما يحسن وضعها المادي والاجتماعي، ولا في الترويح فيحقق لها الاستقرار والراحة النفسية والتقليل من احتمالية الخرس الزوجي أو الطلاق الصامت.
أوقات الفراغ تضاعفت 4 مرات بسبب التقدم التكنولوجي
ضرورة اجتماعية
تشير د. منى كمال، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، إلى أن من يتأمل معنى كلمة الترويح سيجدها مرتبطة بحالة الراحة والانبساط، وإزالة الهموم والتعب من خلال أنشطة إنسانية متعددة تؤدي لإدخال السرور على نفسه بعد حالة العناء، وقد يكون الترويح بعمل ديني تعبدي مثل قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بلال، أقم الصلاة وأرحنا بها»، وقد يكون بعمل دنيوي يبدأ بالبسمة والكلمة الجميلة وتطييب وجبر الخواطر، حتى نصل إلى أنشطة بدنية وذهنية كالرياضة وغيرها مما يؤدي لإعادة إنعاش حالة السعادة للروح وإعطاء القوة للبدن، والسرور والبهجة للنفس لنصل في النهاية إلى الرضا عن الذات وحب الحياة والمحيطين بنا وخاصة أفراد أسرتنا.
حماية تربوية
وتضيف أن الترويح الأسري خير متنفس لشغل وقت الفراغ فيما هو مفيد، ويحمي أفراد الأسرة من الأفكار السيئة وأصدقاء السوء وتخفيف الضغوط الأسرية التي ضاعفت حالات الطلاق في مجتمعاتنا العربية وخاصة في السنوات الأولى من الزواج.
الترويح يقضي على الخرس الزوجي والطلاق الصامت
كذلك يساعد الترويح الأسري على الخروج من مشاق الحياة الصعبة حالياً، ومن جميل أقوال الإمام علي رضي الله عنه قوله: «روّحوا القلوب ساعة لأنها إذا كلّت ملت، وإذا ملت عميت»، فالترويح في الحياة عامة أمر جميل ومطلوب يجدد النشاط ويقوي العزيمة، وهو أوجب في الحياة الزوجية لأنه ينشر السعادة والبهجة بين أفرادها مما يساعدهم على إعداد أفراد أكثر إفادة لأنفسهم ومجتمعهم؛ لأن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، ومن أهم مقوماته الاجتماعية أن يألف ويؤلف، ويكون مصدراً للسعادة والبهجة للمحيطين به في الحياة وخاصة أسرته الصغيرة.
فراغ قاتل
وتؤكد الدراسات الاجتماعية تزايد الفراغ في حياة الإنسان المعاصر من قرابة الـ10% في بداية القرن العشرين إلى أكثر من 30% في بداية هذا القرن؛ أي ما يقارب ثلث العمر بسبب تطور الحياة الحديثة ووسائل الانتقال والاتصال ونظم العمل والإجازات وحقوق الإنسان، ولكن عدم شغل وقت الفراغ ضاعف من المشكلات الاجتماعية والأخلاقية، وجعل الإنسان الضائع يقع فريسة للإدمان والجريمة وأصدقاء السوء؛ لأن الإنسان مغبون من نعمتين، هما الصحة والفراغ.
وتنبه كمال إلى أن الترويح الأسري ليس شرطاً أن يكون مكلفاً مادياً، كما يفهم البعض، وإنما قد يكون بأنشطة تركز على القيم الجمالية والإبداع بمختلف أشكاله، والتذوق الأدبي والفني، وتوسيع دائرة التآلف الاجتماعي من خلال صلة الأرحام.
من المحرم شرعاً ربط الترويح الأسري بالمعاصي
الترويح المحمود
ويؤكد د. سيف قزامل، العميد السابق لكلية الشريعة والقانون-جامعة الأزهر، أن الإسلام يحث على الترويح الأسري بشرط ألا يكون بمعصية، بل بالطيب والحلال، فقال الله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 32).
يتابع: وقدمت لنا السيرة النبوية دليلاً عملياً؛ حيث قالت أم المؤمنين عائشة: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: «هذه بتلك السبقة»، وفي لفظ: سابقني النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلبثنا حتى إذا أرهقني اللحم سابقني فسبقني، فقال: «هذه بتلك».
ويختم قزامل حديثه بالتأكيد على أن الإسلام دعا إلى الاجتهاد في العبادة، ولم يغفل أهمية الترويح عن النفس والأسرة والمحيطين؛ لأن الترويح يعين المسلم على تحمل تحديات مشاق الحياة الأسرية والبعد عن الرتابة والملل، ومن المحرم شرعا ربط الترويح الأسري بالمعاصي.