لم تكن في دمشق كلها في أيامنا إلاّ أربع مدارس ابتدائية فقط، فكان أكثر التلاميذ في المدارس الأهلية، فلم يكونوا يعرفون هذه العطلة الصيفية؛ لأن هذه المدارس تفتح أبوابها في الصيف وفي الشتاء.
وكان تلاميذ المدارس الأميرية (إلاّ الأقل منهم) يقضون مدة الصيف في هذه المدارس، فإذا كان آخر سبتمبر وفتحت مدارسهم عادوا إليها.
ولم يكن يعرف الدمشقيون قضاء الصيف في الجبال، فكانوا يكتفون بالصبحية والمسوية في صدر الباز أو الميزان أو الربوة أو الشاذروان، ومن أراد الاستجمام أمضى أياماً في دمّر أو الهامة، ثم أبعدوا النجعة فصار مجمع الناس في الجديدة والأشرفية وبسّيمة والفيجة، تستأجر الأسرة داراً من دور الفلّاحين أو غرفة من دار تقضي فيها ليالي القمر، وإن أطالت أمضت فيها شهراً، فتبدّلت الحال الآن؛ فصارت المدارس الابتدائية الرسمية عشرات، وازداد الإقبال على الاصطياف، وصار كثير من الناس يقضي الصيف كلّه في الزبداني ومضايا وبلودان، فصار من نتائج الاصطياف وانتشار المدارس الأميرية أن بقي التلاميذ مدة الصيف بلا مدرسة، وكان من نتائج ذلك أن نشأت مشكلة جديدة، هي مشكلة الأولاد، ماذا تصنعون بهم في الصيف؟
هل تنوون أن تحرموهم حقهم في اللعب والحركة والانطلاق وتكلّفوهم أن يقعدوا طول النهار صامتين جامدين في هذه الطوابق المغلقة، فتكون العطلة سجناً عليهم، وهي ما وُجدت إلّا لتكون راحة لهم ومتعة لأنفسهم؟ أم أنتم تنوون أن تطلقوهم على هواهم؛ تذهبون إلى أشغالكم وتتركونهم في البيت للأم المسكينة، يقفزون من حولها من الصباح إلى المساء، ويزوغون منها يوسّخون ما نظّفته ويفسدون ما أصلحته، ويكسرون الآنية ويمزّقون الستائر، فتطلع روحها منهم أو تضيق بهم، فتقذف بهم إلى الشارع، يجتمعون فيه بأولاد الجيران فينطّون ويثبون، ويصيحون ويزيّطون، ويتضاربون ويترامون بالحجارة، فيزعجون المريض ويوقظون النائم ويضايقون العباد، وتكون لهم الطرق مدارس شيطانية تعلّمهم كل بذيء من القول وقبيح من الفعل، ثم لا يعودون إلى الدار إلاّ بثياب وسخة وملابس ممزقة، وربما عاد أحدهم إلى بيته محمولاً قد شجّ رأسه حجر، أو كسرت رجله وقعة، أو لطمته دراجة، أو ضربته سيارة، فلا يكون لعب الأولاد في الطريق إلاّ شراً عليهم وعلى الناس؟ فما العمل؟
أما الأولاد الذين يذهبون مع أهليهم إلى المصايف فلا كلام لنا الآن فيهم، وإن كانت لنا عودة -إن شاء الله- إلى الكلام عنهم، بقي الذين لا يصطاف أهلوهم، وهؤلاء هم موضوع المشكلة؛ لأن من يمضي الصيف كلّه في الجبال هم الأقل عدداً والكثرة من الناس تبقى في دمشق، فماذا يصنع هؤلاء؟
لقد كنت كتبت في جريدة «الأيام» من أسابيع أعالج هذا الأمر من الجهة الجماعية، وبينت ما يصنع القوم في أمريكا وفي غيرها من هذا الباب، ولست أعيد هنا ما قلته هناك، وإنما أعالج الأمر اليوم من الوجهة الفردية بعد أن عالجته من الوجهة الجماعية.
إن علينا أن نجد للتلميذ في العطلة أعمالاً تقوّم خلقه وتزيد ثقافته، أو تقوي جسمه وتحسن صحته، أو تدربه على مواجهة الحياة وتمكنه من اكتساب بعض المال، وقبل أن أفيض في الشرح أبيّن للسامعين أن العمل ليس عيباً، وأن من أبناء الموسرين الكبار في أمريكا وغيرها من يعوّده أهله اكتساب المال في الصيف من أي طريق حلال، وأن طلاب الجامعات يشتغلون في المطاعم بغسل الصحون ويعملون في بيع الجرائد ولا يرون في ذلك بأساً، لا عن حاجة للمال، فمِن آبائهم مَن يملك الملايين حقاً، بل لتعويدهم الكسب والاعتماد على النفس.
وأنا لا أريد من كل أب أن يبعث بابنه ليشتغل بجلي الصحون أو بيع الجرائد، بل أريد أن يفكر الأب أولاً؛ فإن كان ولده مقصراً في درس من دروسه، أو كان عليه إعادة الامتحان في مادة من المواد، فأول ما يجب عليه هو أن يراجع درسه ويستعد لامتحانه، وإذا حُرم راحة العطلة فبذنبه، ولو لم يسترح وقت الشغل لما اضطر أن يشتغل وقت الراحة، ولعله يعتبر فلا يُخدع بحلاوة الذنب بعدما ذاق مرارة العقوبة.
وإن كان الولد ناجحاً وليس عليه امتحان يعيده ولا درس يحضره، كان على أبيه أن يعدّ له -قبل كل شيء- مجلساً من مجالس أهل العلم، أو كتاباً من كتب الأخلاق والدين، ليتعلم من مطالعة الكتاب ومجالسة العالم كيف يكون مؤمناً يخاف الله ويرجو ثوابه، ويحب للناس ما يحب لنفسه، ويبتعد عن الكذب والغش والعقوق وسائر المحرمات، ثم يفتش له عن عمل يشغله؛ فإذا كان الأب مكفِيّ المؤونة ميسور الحال ولم يكن يريد أن يعلم ابنه صناعة أو يعوّده التكسب، علّمه التردد على المكتبة العامة للمطالعة وسأله عما قرأ ومن صاحب، واختار له بإشرافه نادياً رياضياً موثوقاً بأهله والقائمين عليه، فعوده الرياضة وصبّ فيه روحها.
ومن أراد لولده خيراً من ذلك علّمه صناعة من الصناعات؛ كصفِّ الحروف في المطبعة أو الضرب على الآلة الكاتبة أو الميكانيك، أو وَضَعه عند خطّاط أو رسّام يتعلّم منه، على ألاّ يشتغل بذلك نهاره كله، بل نصف النهار فقط ويبقى النصف الآخر لراحته.
وإن كان الأب تاجراً صحبه معه إلى دكانه فعلمه البيع والشراء وجعل له أجرة على عمله، أو اتخذ له «بَسْطَة» فيها من السلع الصغيرة ما يشتغل هو ببيعه ويأخذ هو ربحه، يتصرف فيه على ما يريده، وإن كان الأب زارعاً أخذه معه إلى حقله ورغّبه في حياة الزراعة وكلّفه من الأعمال ما يطيق، وجعل له عليه أجراً.
ولو أن المدرسة تصنع ما يصنع القوم في البلاد الأخرى فتسجل أسماء من يريد العمل وتعدّه هي لهم، فتجد لهم بعض الأعمال الهيِّنة وتدفع إليهم أجرها، كأن تجعل من الأولاد الصغار فرقة لتوزيع الخبز صباحاً على بيوت الحيّ، أو توزيع الحليب أو الجرائد على مشتركي الحيّ، أو تشغّلهم بموافقة آبائهم في المتاجر أو المعامل أو المطاعم على أن تُتخذ الأسباب الكافية لسلامة أخلاقهم وحفظ كرامتهم.
والتلميذات المُحتاجات يَستطعن أن يعملن في البيوت أعمالاً يكسبن منها مالاً، من ذلك أن أكثر ربّات البيوت تجد المشقة في إعداد الخضر للطبخ أو يضيق عن ذلك وقتها، ولو أن بعض التلميذات اتفقن على أن يجتمعن ساعتين كل يوم في بيت واحدة منهن فيُعددن الخضر للطبخ؛ كأن يأخذن الفاصوليا فيقطعنها وينزعن خيوطها ويغسلنها ويضعنها في أكياس من النايلون كل كيلو بكيس، ويقشرن البطاطا أو الباذنجان، ويحفرن الكوسا أو يُقطّعنه، ويأتي أولاد المدرسة فيوزعون ذلك على البيوت، يُباع بزيادة خمسين أو ستين في المئة ويتقاسم الأولاد والبنات الربح، ويكنّ قد تعلّمنَ شغل البيت، وهذا أمر واحد خطر على بالي أسوقه على سبيل المثال.
وهناك أمور كثيرة يمكن أن تُعمل في الدار ويكون منها مكسب ويكون خدمة للناس؛ كأن يؤخَذ البنّ مثلاً فيُحمَّص ويُطحَن، وفي كل دار محمصة ومطحنة، ويوضع في أكياس، أو تشتغل البنت بصنع زهور صناعية، أو أنواع من الحلويات والكاتو (أي الفراني) والبسكويت أو إعداد المواد التي يُصنع منها الزّعتر ومزجها ووضعها في أكياس، أو ترويب اللبن ووضعه في كؤوس، أو إعداد أنواع المربيات والمعقّدات كمربى المشمش والكباد والنارنج والجانرك والخوخ والسفرجل والتين والجوز واليقطين والجزر، أو خياطة ألبسة «بسيطة» للأطفال، ويتولى الأولاد توزيع ذلك.
وأنا أعلم أن هذا الكلام يبدو غريباً ولا يستطيع أكثر الآباء أن يقبله، وأنا كذلك لا أستطيع أن أقبله إذا سمعته من غيري، وهو يبدو غريباً عليَّ وأنا أقوله الآن؛ لأن الأخلاق التي نشأنا عليها والتربية التي رُبينا عليها تعد مثل هذا العمل عيباً لا يشتغل به إلّا المحتاج، وهو حين يشتغل به يستحي منه ويتمنى أن يستغني عنه، مع أن الإفرنج -ولا سيما الأمريكان- لا يرون بذلك بأساً، ونحن نقلدهم دائماً في كل شيء ضار، فلماذا لا نقلدهم مرة واحدة في الشيء النافع؟
إن القصد ليس المال وحده، بل الاشتغال في العطلة والتعود على العمل والتمرّن على مواجهة الحياة والاعتماد على النفس.
وربما قال أحد الآباء: أنا أشغل ولدي أجيراً؟ أعوذ بالله! إنني أعطي ولدي ثلاث ليرات خرجية في اليوم، فلماذا أكلّفه أن يشتغل طول النهار ليحصل على نصف ليرة؟ وإني أقول لهذا الأب الغني: إن روكفلر لم يكن يعطي ولده شيئاً إلاّ مقابل عمل، وقد جعل له نصف بنس (أي أقلّ من نصف فرنك) مقابل كل ثغرة في سياج الحديقة يكشف حاجتها إلى الإصلاح، ثم جعل له عن كل ساعة يعملها في إصلاحها سبعة بنسات ونصف بنسة.
وروكفلر (إن كنت لا تعلم يا أيها الأب الغني) كان يدخل عليه كل دقيقة أكثر من مائتي ليرة، وله أعمال خيرية هائلة، منها مؤسسة الصحة التي تنفق كل سنة ما يعادل ثمانية ملايين ليرة سورية، فلم يكن بخيلاً ولا فقيراً وكان يستطيع أن يجعل خرجية ولده ألف ليرة في اليوم ولا يحسّ بدفعها، ولكنه ضيّق عليه فجعل منه رجلاً مثله، وأنت بتدليلك ولدك وبهذه التوسعة عليه تجعله مخنثاً، لا يعرف للمال قيمة ولا يدري سبيل الاعتماد على النفس، ثم إن الليرة الواحدة التي يكسبها الولد بعمله يكون لها من القيمة ويكون له بها من اللذة ما لا تعدله قيمة مائة ليرة يأخذها من أبيه ولا لذتها، وهذا شيء لا يعرف إلّا بالتجربة.
وبعد، فهل استطعت بهذا الحديث أن أجعلكم تفكرون في هذه المشكلة، مشكلة العطلة الصيفية؟ وهل وُفِّقت إلى إقناعكم بأن تعويد أبنائكم على العمل ليس بعيب، بل هو مكرمة وفضيلة؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فأنا سعيد.
_____________________
أُذيعت عام 1959م، كتاب مع الناس.