يعد العلو والاستكبار والظلم من أهم أسباب هلاك الأمم والشعوب والدول والحضارات، وله مفهوم شامل عريض يؤدي إلى فقدان التوازن في كافة مجالات الحياة وعلاقة الإنسان مع نفسه ومع الله ومع غيره، وعن هذا تنبثق ظواهر نفسية واجتماعية واقتصادية مرضيّة وتصورات فاسدة عن الوجود كله، فيعم الفساد الحياة الإنسانية بأسرها.
وكان من أسباب هلاك فرعون وقومه «الاستكبار»، والاستكبار باعتبار المتكبّر عليه ثلاثة أنواع:
1- التكبر على الله سبحانه وتعالى بالترفع عن عبادته وعن الإذعان لأوامره ونواهيه، وهذا أشنع أنواع الكبر، وهو مثل كبر فرعون، ادّعى الربوبية واستنكف أن يكون عبداً لله عزَّ وجَلَّ.
2- التكبّر على الرسل من جهة الترفع عن الانقياد للبشر مع معرفة صحة ما جاؤوا به، كحال عامة الأمم المكذّبة للرسل.
3- التكبر على سائر الخلق باستعظام نفسه واحتقار الناس والترفع عليهم والإباء عن الانقياد لهم، ولو كانوا على حق، وهذه الأنواع رأيناها في قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه. (أسباب هلاك الأمم السالفة، ص 159).
إن النبي ﷺ بيَّن حقيقة الكِبر المتوعد عليه بالعقاب، قال ﷺ: «الكبر بطر الحق، وغمط الناس» (غمط الناس: احتقارهم، انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، أبو زكريا محيي الدين النووي، 2/ 90).
والاستكبار: صيغة استفعال دالّة على الطلب، قال الألوسي: والاستكبار: طلب الكبر من غير استحقاق. (روح المعاني، 29/ 72).
وكثيراً ما يرد في القرآن وصف الاستكبار بأنه استكبار بغير حق، وقد يُفهم من ذلك أنه تخصيص لبعض أنواع الاستكبار بكونها بغير حق، مما يشعر بوجود استكبار بحق، وقد سبق أن هذه الصيغة لا تأتي إلا للذم، وأجاب ابن عاشور عن هذا الإشكال في تفسير قوله تعالى: ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ﴾ (القصص: 39)، فقال: وقوله ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ حال لازمة لعاملها إذ لا يكون الاستكبار إلا بغير الحق، فيكون قوله ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ زيادة بيان للمعنى الذي دلَّ عليه لفظ استكبار. (أسباب هلاك الأمم، ص 158).
وقد وردت بعض الألفاظ بمعنى الاستكبار في سياق ذكر هذه الصفة في قصة موسى مع فرعون وقومه وهي:
– العلو: ورد في عدة مواضع فعلاً وصفة ومصدراً، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ (القصص: 4).
قال الرازي: ﴿عَلَا﴾: استكبر وتجبّر وتعظم وبطر.
وفي اللسان يقال: علا في الأرض إذا استكبر وطغى.
وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ﴾ (يونس: 83) أي: جبار مستكبر. (أسباب هلاك الأمم، ص 159).
وأما المصدر ففي قوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ (النمل: 14)؛ أي: تعظّماً واستكباراً.
– العتو: وهو الاستكبار ومجاوزة الحد، وقد وردت في مواضع من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ﴾ (الطلاق: 8).
قال ابن كثير: أي تمرَّدت وطغت واستكبرت عن اتِّباع أمر الله ومتابعة رسله.
– الطغيان: وأصله مجاوزة الحد في العصيان، وقد ورد في عدة آيات منها قوله تعالى عن فرعون: ﴿إِنَّهُ طَغَى﴾ (طه: 43)، قال الطبري: يقول: عتا وتجاوز حدَّه في العدوان والتكبر على ربه.
– البغي: وقد ورد في قصة قارون في قوله تعالى: ﴿فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾ (القصص: 76)، قال الطبري: فتجاوز حدّه في الكبر والتجبر عليهم.
إن الكبر خلق ذميم وكبيرة من كبائر الذنوب، بسببه شقي كثير من الناس، وأوبَقوا أنفسهم في العاجلة، واستحقوا العذاب في الآخرة، والنصوص الواردة في ذمّه وبيان خطورته وما أعد الله لصاحبه كثيرة، لا تحصى، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (غافر: 60).
وقال ﷺ: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر».
وهذان النصان في الوعيد الأخروي، أما في العاجلة فيكفي في بيان عقوبة صاحب الكبر ما ورد في النصوص الدالة على كونه سبباً في هلاك كثير من الأمم السالفة.
وقد كان فرعون وقومه أشد الأمم تكبّراً وأعظمها تجبراً وعلوّاً، ونادراً ما يذكر القرآن قصتهم إلا ويذكر عنهم صفة الكبر، وما ترتب عليها من آثار سيئة ذاقوا بسببها وبال أمرهم، وقد مرّ بنا في هذا الكتاب تفسير الآيات المتعلقة بذلك مثل قوله:
– قال تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ (غافر: 27).
– وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ (غافر: 26).
ومن الآيات التي تتحدث عن القصة في فرعون وفي قومه:
– قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ (الأعراف: 133).
– وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ (يونس: 75).
وغير ذلك من الآيات الكريمة.
إنَّ الاستِكبارَ من أسباب هلاكِ الفراعنة؛ وسبب هلاك الأمم السابقة واللاحقة.