عملية مُعدة منذ سنة، أكثر من ألف جندي ونحو 120 آلية و17 غارة جوية، بالحساب العددي؛ فإن العملية العسكرية كانت بواقع جندي صهيوني مقابل كل 15 من سكان المخيم بأطفالهم ونسائهم؛ رافقتها تأكيدات صهيونية بأن المدى الزمني للعملية مفتوح، وأنه لا توجد ضغوط دولية لوقفها.
المحصلة أن الاحتلال أنهى العملية العسكرية ميدانياً بعد 48 ساعة من بدئها، دون التمكن من اقتحام كامل المخيم، ودون التمكن من تصفية «كتيبة جنين» لتستمر المقاومة من اللحظة الأولى من المعركة وحتى اللحظة الأخيرة.
هذه الملحمة في مخيم جنين، الثانية خلال شهر، والمنبعثة من تحت رماد اجتياح عام 2002 يمكن القول: إنها تفصل بين زمانين، وتؤسس لمعادلة المستقبل، ولعل أبرز عناصر هذه المعادلة هي:
أولاً: قطعت معركة جنين شوطاً كبيراً نحو فرض معادلة الانسحاب والتراجع الصهيوني أمام قواعد المقاومة في الضفة الغربية، فكما انسحب المحتل تحت ضربات المقاومة من جنوب لبنان ومن قطاع غزة، ها هي اليوم المعادلة تنتقل لتفرض عليه بؤر مقاومة حصينة في الضفة الغربية، يعجز عن اقتحامها، وينظر إليها كأرض عدو محصنة يجرد ضدها حملات عسكرية كبرى تتكسر على صخرتها.
بالتأكيد لن يكون فرض هذه المعادلة سهلاً، فهي تعني التأسيس لتحرير الضفة الغربية أو أجزاء واسعة منها انطلاقاً من نموذج مخيم جنين إذا ما استُلهم وأخذ ينتشر، وليس منتظراً من الاحتلال أن يسلم لهذا النموذج بسهولة، وربما يعود للمحاولة بحملة أكبر في عملية قريبة قادمة، أو يلجأ للحصار والاستنزاف، ويسعى بكل قوته على جبهة الاختراق وتفريق الصف، وهو ما يوجب تضافر الجهود لإفشاله.
ثانياً: كرست معركة مخيم جنين من جديد معنى الوحدة الميدانية، وهي الوحدة الفعلية التي يمكن التطلع إليها والمراهنة عليها في الحالة الفلسطينية، وهي الوحدة التي سبق لها أن تكرست في مواجهات رمضان ومعركة «سيف القدس» عام 2021، وفي معركة الاعتكاف في رمضان الماضي قبل أقل من ثلاثة أشهر، «سرايا القدس»، و«كتائب شهداء الأقصى»، و«كتائب القسام»، و«عرين الأسود»، و«كتيبة جبع»، و«كتيبة طوباس»، كل المكونات المقاتلة التي تتخذ من المقاومة المسلحة نهجاً هبّت لنصرة مخيم جنين، فيما كان أحد النمور المقاتلة أصحاب المبادرات الفردية يتحفز لترجيح كفة المعركة في «تل أبيب»، أما القدس فكانت أحياؤها تشتعل بالمواجهات في كل ليلة، لتدخل المقاومة الشعبية على الخط.
تؤكد هذه التجربة مدى المبالغة لدى النخب الفلسطينية والعربية في أهمية وحدة الإطار ووحدة القيادة، فما وُضع من جهود للمصالحة، وما عُطل من جهود بانتظار إحياء منظمة التحرير أو إعادة إنتاجها؛ كان سيثمر أكثر بكثير لو وضع على الأرض باتجاه الوحدة على أرض المعركة وعلى أساس المقاومة، وهذا ما ينبغي أن يستفاد اليوم من هذه الملحمة.
لقد كرست تجربة «كتيبة جنين» كذلك إمكانية تخطي التنسيق الأمني إلى فعل مقاوم مُجدٍ يصطدم بالمحتل، يعض على الجراح ويتجنب توجيه بندقيته نحو التنسيق الأمني، الذي يرقى إلى مستوى الخيانة من حيث الفعل والأثر، لكن الأولوية تبقى لفتح خطوط المواجهة مع المحتل، وإن أمكن أحياناً ردع هذا السلوك الخياني بأدوات مجتمعية متعددة بالتظاهر والاعتصام والمقاطعة.
ثالثاً: لقد أثبتت تجربة الاحتضان المتفاني من أهل المخيم وجوارهم، أن هذه الكتائب الجديدة حالة فريدة، ليست نابعة من بنية قيادية قررت إنتاجها بقدر ما هي إفراز مجتمعي من بيئة حاضنة تتطلع للمقاومة ويتحرق شبابها للفعل المقاوم الذي يثخن في العدو، وينتظر فيها الشباب دورهم لوراثة البنادق القليلة إذا ما شغرتها الشهادة.
إن هذا التشخيص لا يقلل من دور قوى المقاومة التي ترفد تلك الكتائب بالإمكانات المادية والدعم السياسي والخبرة العسكرية، بقدر ما يدفعنا للتعامل مع هذه الكتائب بما يعظم من جدواها وأثرها وديمومتها، بالتقليل من مظاهر الاستعراض القيادي لها، والمبادرة الفورية إلى دعمها بكل أشكال الدعم المادي والعسكري والسياسي، فما دامت ابنة بيئتها المجتمعية فإن بوابات دعمها تتعدد، وتصبح أكثر إمكانية، والمشاركة في هذا الواجب تصبح متاحة لفئات أكثر من المتطلعين إلى كسر طوق العجز.
هذا يعني أيضاً ضرورة المبادرة إلى تمتين هذه الحاضنة الشعبية وتوسيعها بالمبادرات الشعبية لإعمار المخيم وعلاج الجرحى والوقوف مع عائلات الشهداء، فهذه المعركة معركة الشعوب، ومبادرة أي نظام رسمي من أنظمة التطبيع لإعلان أي مساهمة لا ينبغي أن تثني المبادرات الشعبية عن واجبها تجاه معركتها، فهي الأولى بأهل جنين ومخيمها.
في الخلاصة، هذه القراءة –إن صحت- تعني أن علينا واجبات مهمة وأساسية اليوم كل من مكانه وموقعه مع وحدة الهدف، تبدأ من ضرورة الاستعداد لحملات تالية ولمواجهة محاولات العدو حصار مخيم جنين واستنزافه، والعمل بكل جهد ممكن على تعميم النموذج وتوسيع قاعدة الاشتباك وتنويع أشكاله، وزيادة الردع المجتمعي لنهج التنسيق الأمني الخياني، ودعم الكتائب المقاتلة بكل أسباب الدعم الممكنة عبر حاضنتها المجتمعية، ومد يد الإعمار وتضميد الجراح والتآخي لحاضنة المقاومة في جنين ومخيمها، والاستعداد لزمان جديد لا تقتصر فيه المعركة على جنين؛ زمان يؤسس للانتقال ومن الصمود إلى فرض التراجعات، ومن المقاومة إلى التحرير بالكثير من العناد والصبر والمعارك المتتالية.