عرفت الدولة الحديثة نسقًا من القيم الحضارية التي تنظم العلاقات بين مفردات المجتمع، فتقنن الحقوق والواجبات، كما تبني سياجًا محكمًا لحفظ حقوق الأفراد وحرياتهم، وفي سبيل صيانة تلك القيم كتبت الوثائق الدستورية.
في نظريات التمثيل النيابي، يبرز فارق جوهري بين وصفي «المرشح» و«النائب»، فالمرشح للمجلس النيابي في نطاق جغرافي معين (بلدية، محافظة، أو ولاية) عليه أن يعلن برنامجه، ويستعرض مهاراته، ويتنافس مع زملائه لنيل ثقة الناخبين في دائرته، وتمر عملية ترشحه بمراحل تبدأ برغبته في الترشح وتنتهي بإعلان الفائزين، وتمر بأمور الدعاية الانتخابية، والمؤتمرات الشعبية، والمناظرات الإعلامية، وغيرها من أدوات الترشح.
ثمة مرحلة مختلفة تبدأ لحظة إعلان الفائزين، فالمرشح هنا أصبح عضوًا في منظومة تنفصل عن المواطن عضويًا، لكنها في ذات الوقت تمثله تمثيلًا جمعيًا، ينهض فيها النائب بواجبات النيابة فور وصوله للمجلس.
والسؤال الأبرز هنا: هل النائب يمثل دائرته الانتخابية داخل المجلس، أم يمثل عموم الأمة؟
حسمت نظرية التمثيل النيابي هذه المسألة، كما نصت عليها معظم دساتير الدول الحديثة، وهو ما أخذ به الدستور الكويتي حيث نص على كون عضو مجلس الأمة يمثل الأمة بأسرها ويرعى المصلحة العامة، ويعد هذا إحدى أهم الضمانات التي يتمتع بها النائب في ممارسة مهامه، ممثلًا عن الأمة مستقلًا عمن انتخبوه.
لكن، هل توفر هذه الاستقلالية مظلة لإفلات النائب من التزاماته، وحجة للنكوث عن وعوده الانتخابية؟ أم أن النائب مرتبط بدائرته الانتخابية ارتباط لزوم، وملزم بتحقيق وعوده؟
محددات مهمة
يختلف شكل النيابة بين نائب مستقل وآخر حزبي؛ ما ينعكس على شكل البرامج والوعود الانتخابية، وطبيعة التجربة والسابقة، كما أن النظام الانتخابي ذاته يصنع فارقًا، فالانتخاب الفردي غير انتخاب القائمة، والانتخاب بالقائمة النسبية المغلقة غيره بالقائمة المفتوحة المطلقة، لكن المؤكد أن كل هذه الأمور ما هي إلا أوصاف فنية لا تغير شيئاً في طبيعة التمثيل النيابي التي هي علاقة ثنائية «ناخب – نائب»، لكن الحكم في نهاية الأمر يكمن في وفاء النائب ببرنامجه الانتخابي؛ ما قد يسهم في تميزه السياسي، ونقاء مسيرته النيابية.
لكن هل ثنائية «الناخب والنائب» تلك تحكمها محددات قانونية أو واقعية أكثر تماسكًا من مجرد رغبة النائب في التميز السياسي؟
بداية، تكمن هنا إشكالية، تؤدي دومًا لتشويه فكرة التمثيل النيابي ذاتها، تتمثل في الخلط بين طبيعة تمثيل النائب في المجالس البرلمانية والنائب في المجالس الشعبية المحلية، فالنائب في الأولى له أدوار تتعلق بالتشريع والرقابة وضبط أداء السلطة التنفيذية ومحاسبتها، وهي أدوار عُليا بطبيعتها تتسم بصفتي العموم والتجريد، أما في المجالس الشعبية المحلية فالنائب مكلف بأدوار أكثر تفصيلًا تقع في نطاق جغرافي محدد، الخلط في الوظيفة والدور يقع أحيانًا من جانب المواطن الذي ينتظر من النائب حلولًا فورية لمشكلاته، وأخرى من جانب النائب الذي يقدم وعودًا تلبي احتياجات «ضيقة» لناخبيه، والخلط هنا محمود في وجه، وهو حصول المواطن على خدماته، لكنه في المقابل قد يشوه فكرة التمثيل النيابي إن تم الإفراط فيه وانشغل به النائب عن وظيفته، أو استغله للهرب من استحقاقاته ومهامه لدور ضيق يغازل به ناخبي دائرته على حساب دوره في خدمة أمته.
الإشكالية الأكبر تكمن في عدم وضوح طبيعة الالتزام بين الناخب والنائب، ومحدداته، وهل يملك الناخب إلزام نائبه الذي أخل بواجباته؟
يجب التمييز ابتداء بين نوعين من الوكالة؛ «وكالة إلزامية» تشبه وكالة المحامي أو الوكيل التجاري، التي يلتزم فيها بتعهداته حرفيًا، و«وكالة نيابية» يعمل فيها النائب حرًا دون الرجوع لناخبيه، المؤكد أن الوكالة النيابية هي الأقرب لطبيعة التمثيل النيابي، بل الأقرب للواقع الذي لا يدعم شكل الوكالة الإلزامية، ويجعلها نظرية متروكة، وفرضاً مستحيلاً، إذن، ما محددات هذه الوكالة النيابية؟ لم تنص الدساتير وقوانين الشأن النيابي على مواد تنظم طبيعة هذا الالتزام أو محدداته، وهذا ما ينسجم مع نظرتها للنائب باعتباره نائبًا عن الأمة، إذ كيف ينوب عن الأمة ثم نضع عليه قيوداً تجاه ناخبي دائرته، وهنا تبرز فكرة «الالتزام الأدبي» الذي قد يكون أقوى من الالتزام القانوني وأمضى أثراً، لكنه في المجتمعات التي تحافظ على قيم القبيلة، والعلاقات بين العوائل، ونظم التدرج الأبوي للعائلة، أقوى أثرًا منه في مجتمعات الحواضر الكبرى والولايات الواسعة.
لكن فكرة الالتزام الأدبي تحتاج دومًا لآليات أخرى مادية محسوسة تساندها حتى يسهل ضبطها، يأتي في مقدمتها المدة المحددة للولاية النيابية، فالنائب يواجه ناخبيه في دورة انتخابية جديدة، يحتاج فيها أصواتهم، وعليه أن يقدم كشف حساب عن فترته المنصرمة، فيستبدله ناخبوه، أو يجددون له، لكنها من وجهة نظري غير كافية لحماية مفهوم الالتزام الأدبي، فقد يسهل تجاوزها إن استطاع النائب الحفاظ على علاقاته بالكتل الانتخابية الكبرى من عائلته أو قبيلته على حساب باقي الكتل التي تمثل جزراً انتخابية منعزلة غير مؤثرة، كما أنها من ناحية أخرى لا تُفعّل إلا عند انتهاء مدته، وهو ما يعني عقاباً فات أوانه.