من الكلمات النفيسة التي جاءت في كلام العرب أنه «إذا كانت محاسن الرجل تغلب مساوئه فذلكم الرجل المتكامل، وإذا كانا متقاربين فذلك المتماسك، وإذا كانت المساوئ أكثر من المحاسن فذلكم المتهتك»، وبهذا الميزان الراجح قامت سوق الإنصاف، وانفض الظلم والإجحاف، والإنصاف عزيز أعز من عنقاء مغرب؛ لأن النفس بطبيعتها فيها الهوى، والإنسان ظلوم جهول، فإذا أردنا أن نكون منصفين في الحكم على الأشياء والأشخاص فلا بد من الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات والحسنات والسيئات، ولا يحملنا بغضنا لشخص أن نجرده من جميع فضائله حتى لو كان كافرًا، قال تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 75).
إن أهل الكتاب فريقان؛ فريق يؤدي الأمانة تعففًا عن الخيانة، وفريق لا يؤدي الأمانة متعللين لإباحة الخيانة في دينهم، قيل: من الفريق الأول عبدالله بن سلام، ومن الفريق الثاني فنحاص بن عاوزاء، وكلاهما من يهود يثرب، والمقصود من الآية ذم الفريق الثاني إذ كان من دينهم في زعمهم إباحة الخون قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)، وإنما قدم عليه قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ)؛ إنصافاً لحق هذا الفريق؛ لأن الإنصاف مما اشتهر به الإسلام.
السبق القرآني
قاعدة قرآنية كريمة سبق بها القرآن الكريم سبقاً بعيداً تعد نبراسًا للسائرين ومناراً يهدى الحيارى التائهين في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8)، قال السعدي: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بما أُمِرُوا بالإيمان به، قوموا بلازم إيمانكم، بأن تكونوا (قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) بأن تنشط للقيام بالقسط حركاتكم الظاهرة والباطنة، وأن يكون ذلك القيام لله وحده، لا لغرض من الأغراض الدنيوية، وأن تكونوا قاصدين للقسط، الذي هو العدل، لا الإفراط ولا التفريط، في أقوالكم ولا أفعالكم، وقوموا بذلك على القريب والبعيد، والصديق والعدو، (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ)؛ أي: لا يحملنكم بغض (قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) كما يفعله من لا عدل عنده ولا قسط، بل كما تشهدون لوليكم، فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له، ولو كان كافراً أو مبتدعاً، فإنه يجب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق، لأنه حق لا لأنه قاله، ولا يرد الحق لأجل قوله، فإن هذا ظلم للحق، (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)؛ أي: كلما حرصتم على العدل واجتهدتم في العمل به كان ذلك أقرب لتقوى قلوبكم، فإن تم العدل كملت التقوى، (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) فمجازيكم بأعمالكم، خيرها وشرها، صغيرها وكبيرها، جزاء عاجلا، وآجلاً.
النقطة السوداء
ما أكثر الذين يبحثون عن النقطة السوداء في الثوب الأبيض ليطيروا بها فرحاً وإذاعة ونشراً، ديدنهم البحث عن الخبيث ولو كان في بستان كثيف، يجمعون الزلات ويتلمسون العثرات ويترقبون الهفوات، يتعامون عن الفضائل والحسنات ويبهجون بالرذائل والسيئات، طباعهم ممجوجة وفطرتهم منكوسة، ولقد أبدع الإمام ابن القيم رحمه الله في «مدارجه» حين قال واصفاً حالهم: «من الناس من طبعه كطبع الخنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمّه، وهكذا حال كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونقله»، فإياك أن تنظر إلى الناس بعين واحدة، أو أن تكون أحادي النظرة أحادي الاتجاه! وإياك أن تكون كالذباب لا يسقط إلا على الجروح والقروح!
الصائدون في الماء العكر
جاء في صحيح البخاري: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ البَيْتَ، فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلاَءِ القَوْمُ؟ فَقَالُوا: هَؤُلاَءِ قُرَيْشٌ، قَالَ: فَمَنِ الشَّيْخُ فِيهِمْ؟ قَالُوا: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ، إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ أُبَيِّنْ لَكَ، أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ، وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَسَهْمَهُ» وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ اليُمْنَى: «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ»، فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: «هَذِهِ لِعُثْمَانَ» فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: اذْهَبْ بِهَا الآنَ مَعَكَ.
نفر من ضعاف النفوس لا يخلو منهم عصر ولا مِصْر منهم هذا الرجل الذي أراد أن يطاول سمو السماء وعلو العلياء، وفكر معي طويلاً في سيرة عثمان بن عفان فمناقبه كثيرة عظيمة أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تُحصر، ثالث الخلفاء الراشدين، وثالث العشرة المبشرين، تزوج ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فسمى «ذا النورين»، وحسبك بها شرفاً وفخراً، كانت تستحيي منه الملائكة، اشترى الجنة من يد النبي صلى الله عليه وسلم مرتين يوم أن اشترى بئر رومة في المدينة المنورة، وحين جهز «جيش العسرة» في غزوة «تبوك»، وهو الذي وسع المسجد النبوي الشريف في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشترى الأرض المجاورة له بخمسة وعشرين ألف درهم وغيرها كثير، لكن الرجل تعامى عن هذه الفضائل وظل يبحث عن سقطة واحدة لينال من هذا الصرح العالي وهيهات هيهات!
ولله ما أفقه ابن عمر وما أروعه في رده البليغ المعجز، لقد أقر الرجل على كلامه وصدقه في اتهامه ثم انتزع دليل البراءة من دليل الاتهام لينقض الاتهام من أساسه، وفيه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة لابن عمر رضي الله عنهما تدل على علمه ودقيق فقهه وجوابه الحسن على من سأله.
وبعد، فليس بمستغرب أن يتطاول السفهاء على الأجلاء والوضعاء على الرفعاء والدهماء على النجباء، وإنما العجيب أن يتطاول غر صغير أكل الحقد قلبه وأعمى الباطل عينه على البحر الهامر والغيث الغامر الذي بلغ في العظمة منتهاها ومن الأمانة ذراها! ونخبة القول: إن الطيور لا تنقر إلا أطيب الثمر، والسهام لا توجه إلا إلى أفضل البشر.