شبهة متكررة يثيرها الحداثيون بين الحين والآخر ضد شرع الإسلام في أنصبة الميراث، التي حددها الله عز وجل تفصيلاً في القرآن الكريم، استناداً إلى مزاعم عدة، على رأسها أن تلك الأنصبة «زمكانية»؛ أي ليست متجاوزة للزمان والمكان الذي نزلت فيه آياتها، وأن المصالح حاكمة على الشرائع.
ويدعي الحداثيون مع كل موجة دعوة للمساواة المطلقة بين أي امرأة وأي رجل في الميراث بأن العصر قد تغير، وأن احتياج المرأة المادي تضاعف بمرور الوقت، وبالتالي فإن الأنصبة الواردة في القرآن استرشادية أو أنصبة حدود دنيا فقط، ولا تعني الالتزام الحرفي بالنسب المحددة فيها بالضرورة!
أغلب هذه الدعاوى ينطلق أصحابها من أرضية علمانية بالأساس، وبالتالي يكتفون بمزاعم المصلحة المقدمة على النصوص، وهو قول باطل ببرهنة القرآن، التي لا تدعم أي إلغاء للشرائع تحت أي دعوى.
لكنَّ فريقاً من الحداثيين بدأ في تبني تأويلات دينية مؤخراً، زاعماً أنها تؤكد شرعية توزيع المواريث على خلاف النسب الواردة في آيات الكتاب، وكلهم استقى فكرته بالأساس من تأويلات المهندس السوري الراحل محمد شحرور، الذي ارتأى أن الإرث في القرآن قانون عام لا يأخذ بالاعتبار الحالات الخاصة، وأنه يحقق العدالة العامة بين المورثين، ويترك مجالاً للوصية التي تحقق العدالة الخاصة بين المستحقين.
ويفسر شحرور آيات الإرث بأن حصة الذكر من الأولاد مساوية لحصة الأنثى، إلا في حال وجود ذكر واحد مقابل كل 4 إناث، وأن حصص الأصول والفروع هي حصص عينية وليست حدودية، وأن حصص الزوج أو الزوجة والإخوة حصص حدودية، وأنه في حال وفاة أحد الفروع قبل الأصول أو أحد الأبوين قبل الفروع تنتقل حصته إلى أولاده أو أبويه.
لكن تفنيداً أولياً لمستند شحرور يكشف مدى اضطرابه المنهجي، فهو يقدم زعمه دون برهنة تفيد اليقين على مخالفة دلالة آيات المواريث لما هو واضح من نصها المذكور في الكتاب، أو على أن الأنصبة الواردة في الآيات ليست عينية، بل يكتفي بالاعتماد على دلالة اشتراط الآيات لتنفيذ الوصية أولاً، دون البرهنة على أن تلك الوصية واجبة.
وحقيقة الأمر أن شبهات الحداثيين تنطلق من سوء فهم لحكمة الشرع في تقسيم الميراث بين الرجل والمرأة، فالإسلام أعطى المرأة حقها في الميراث، ولم يحرمها منه كما كان يفعل الجاهليون، بل جعل لها نصيباً مفروضاً لا يتغير بإرادة المورث أو الورثة، وهذا نوع من العدل والكرامة للمرأة.
ولكن هذا النصيب قد يكون نصف نصيب الرجل في بعض الأحوال، استناداً إلى عامل متغير هو البعد الاجتماعي، الذي يختلف فيه سياق المرأة المسلمة عن سياق المرأة في الثقافة الغربية.
فالمرأة في الإسلام غير ملزمة بأي إنفاق في بيت زوجها، وبالتالي فإن نصيبها من الميراث هو نصيب صاف لا اقتطاع منه، بينما هي في السياق الغربي تمثل نصف الإنفاق على السواء مع زوجها.
وإضافة لذلك، فإن المرأة في الإسلام تحصل على مال زوجها إذا مات، سواء كان ميراثاً أو وصية أو دية، بخلاف الرجل الذي لا يحصل على شيء من مال زوجته إذا ماتت، إلا إذا ورثها من جانب آخر.
كما أن المرأة، في الإسلام، تستفيد من مال زوجها في حال الطلاق، سواء كان مهراً أو نفقة أو متعة، بخلاف الرجل الذي لا يستفيد من شيء من مال زوجته في حال الطلاق، إلا إذا كانت مدينة له.
ويبين أستاذ الفقه الإسلامي د. صلاح سلطان، في كتابه «امتياز المرأة على الرجل في الميراث.. دراسة فقهية»، أن المرأة تحصل على نصيب كامل في بعض الأحوال، كما في حال وجود بنت وابنتي ابن، فإن البنت تأخذ نصف المال، وابنتا الابن تأخذان النصف الآخر.
كما أن المرأة تحصل على نصيب أكبر من الرجل في بعض الأحوال، كما في حال وجود جدة لأب وجدة لأم، فإن كل جدة تأخذ سدس المال، وإن كان هناك جد لأب فإنه يأخذ سدس المال فقط.
ويُجمل سلطان حالات الميراث بالقول: إن المرأة في الإسلام لا تأخذ نصف نصيب الرجل في الميراث دائماً، بل لها 4 حالات: أن تأخذ نصف الرجل، أو مثل الرجل، أو أكثر من الرجل، أو أن ترث ولا يرث الرجل.
وبحسب الدراسة، فإن الميراث في الإسلام ليس مجرد قسمة مال، بل هو عبادة وأمانة وحق لكل وارث، وأن الشريعة الإسلامية قد أخذت بعين الاعتبار مصالح الورثة وظروفهم وحاجاتهم ومسؤولياتهم عند تحديد نصائبهم، وبالتالي لا مجال لادعاء مقاصدية أو مصلحية بالمخالفة للنص الشرعي.
ولذلك، فإن التشريعات الواردة في القرآن ليست ظُلْماً للمرأة، بل عين العدل والرحمة من رب العالمين، الذي خص كلاً من الزوجين بما يناسب خصوصيته، لكن الحداثيين لا يقرؤون الواقع بعيون قرآنية، بل يذهبون إلى آيات الكتاب للي أعناقها من أجل الوصول بها إلى نتائج مسبقة التجهيز، وهو ما يصدق فيه قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ) (آل عمران: 7).
فالإسلام سوَّى بين المرأة والرجل في الأصول الدينية والأخلاقية والإنسانية، فهما متساويان في التكليف والثواب والعقاب، وفي حق التعبد والتعلم والتعليم، وفي حق الحياة والحرية والميراث، كما أن المرأة لها حقوق خاصة على الرجل كزوج أو أب أو أخ أو ابن، ولكن هذا التساوي لا يعني التطابق في كل شيء.
بل إن المساواة دون مراعاة البعد الاجتماعي هي عين الظلم، فأي عدل في المساواة بالمواصلات مثلاً بين عموم الناس ومتحدي الإعاقة؟ إن التمييز الإيجابي لصالح الفئات الأضعف في مثل هذه الحالات هو عين العدل.
خدعوك فقالوا: العدل يعني المساواة، وهو فهم أقل ما يوصف به أنه سطحي ولا يعبر سوى عن عقلية المنهزم حضارياً المولع دائماً بتقليد الغالب، بحسب تعبير ابن خلدون.