«مَنْ ليس لديهم أبناء بارعون في التربية»! هذه العبارة تعكس مدى الإحباط الذي يعانيه أكثر الآباء عند تعاملهم مع أبنائهم! إذْ ما إنْ يبدأ المولود الحبيب يَدْرُجُ خارجَ مهده حتى يتبددَ جوُّ السعادة الذي كان يشيعه في البيت! فمع خطوات الحياة الأولى للطفل تولد معاناة الآباء في التربية، ومع مرور الأيام يتحول الملاك الوديع إلى شيطان مريد، يُشيع في البيت الهَرْجَ والمَرْج، وينشر الفوضى في كل مكان، ويملأ الدنيا ضجيجاً يكدِّر صفو العائلة ويُفْقِدُ الوالدين صوابهما! عندئذ تبدو قواعد التربية خُوَاءً أجوف، وتتحول العلاقة بين الوالدين وطفلهما إلى صراع يومي مرير!
أين يكمن الخطأ في علاقة الوالدين بطفلهما؟! كيف تكون معاملة «مارد صغير»؟! وكيف يمكن تحقيق التوازن العائلي في جو الفوضى الصاخبة الذي يخلقه «مَرَدَةُ الجِنّ»؟!
على السطور التالية محاولة متواضعة للإجابة عن هذه الأسئلة –وأشباهها– في إطار طب الأطفال النفسي، وعلم النفس الحديث، ومن منظور دين الإسلام الحنيف.
الغرائز الأولية
يمكن تعريف «الغريزة» ببساطة بأنها «رغبة (أو حاجة) طبيعية يستلزم إشباعُها (أو تحقيقُها) سلوكاً (أو تصرُّفًا) معيناً من غير حاجة إلـــى عـلم أو خبرة» (أي أن السلوك أو التصرف اللازم لإشباع الحاجة أو الرغبة الطبيعية لا يتطلب علما ولا خبرة).
ونظرةٌ فاحصةٌ إلى سلوك الطفل –أي طفل– من لحظة مولده، تكشف في الحال عن الوجه الغريزي لتصرفاته؛ إذْ تدور تصرفاته كلها حول غريزة المحافظة على الحياة، وهي أقوى غرائز الأحياء وأوّلها ظهوراً وأدومها وجوداً.
فعندما يُدَوِّى بكاء الرضيع في جوف الليل، فإنه لا يهدف إلى إزعاج والديه وحرمانهما من لذة النوم، ولا يريد أن يثبت وجوده بصياح يمزق صمت الليل وهدوءه، وإنما ببساطة شديدة يريد جُرْعَةً من لبن أو ماء تحفظ عليه حياته! وفي كل أمر يتعلق بوجوده تراه يلجأ إلى الصياح والبكاء، وهما لغتُهُ في تلك المرحلة من العمر، ولا يهدأ الرضيع ولا يسكت صياحُه إلا عندما يتحقق له ما يريد.
وعلى ذلك، فإن غريزة المحافظة على الحياة، أو بكلمات أخرى: غريزة البقاء، هي التي تفرض على الرضيع التصرفَ (على ذلك النحو المزعج) بالبكاء والصياح كلما نشأت عنده حاجة تحتاج إلى إشباع، وكما لا يخفى، فإنه لا يحتاج إلى تعلم البكاء ودراسة أصول الصياح، ولا يحتاج إلى خبرة في هذا المضمار! غريزة المحافظة على الحياة، وما يلحق بها من غرائز سوف يلي بيانها إن شاء الله تعالى، تسمى «الغرائز الأولية» أو «الغرائز الأساسية»، أو بالتسمية الأكثر شيوعاً «الغرائز الحيوانية»، ذلك أن الإنسان يشترك مع سائر فصائل الحيوان في ولادته بهذه الغرائز.
لذلك، فإن أولى الحقائق التي يتعين على الآباء أن يَعُوها وهم يتعاملون مع أبنائهم، أن سلوك الطفل في أطوار نموه الأولى تحكمه غرائز حيوانية، وليس يعني ذلك أن نعامل أطفالنا كما نعامل القطط والحيوانات الأليفة في البيت! وإنما يعني ببساطة شديدة ألا نتوقع من أطفالنا في تلك المرحلة من العمر سلوكاً مهذباً يخضع للأعراف السائدة، ويراعي الآدابَ المعمول بها في محيط الأسرة والمجتمع.
الحاجات النفسية
للطفل حاجات نفسية أساسية لا بد من إشباعها إذا أُريدَ له أن ينشأ نشأة سوية، وهذه الحاجات غريزية كذلك، إلا أن علم النفس يُؤْثِرُ إطلاق تلك التسمية عليها (الحاجات النفسية) على اعتبار أن تحقيق تلك الحاجات ليس ضرورة من ضرورات البقاء، ولا لازمة من لوازم الحياة، لكن إشباع تلك الحاجات النفسية ضروري لنشأة الطفل خالياً من الاضطرابات النفسية والانحرافات السلوكية.
هذه الحاجات النفسية الأساسية، هي:
– الحاجة إلى الحب.
– الحاجة إلى الأمن.
– الإحساس بقدرة الاعتماد على النفس.
– الإحساس بالاعتبار (أو بالكرامة).
وفيما يلي عرض مبسط لكل واحدة منها:
من البديهي أن كل والدين يحبان طفلهما، إلا أن توصيل الحب إلى الطفل وإشـعار الطفل أنه أثير عند والديه قـد يتخذ طرقاً غير سـليمة، وصوراً غير صحيحــة، مثال ذلك إغراق الطفل بعشرات اللُّعَب، ثم تركه وحيداً منزوياً في ركن من البيت، وانصراف الأم عنه بسبب عملها، أو بسبب اشتغالها بشؤون البيت، وانصراف الأب عنه نتيجة ساعات غيابه الطويلة عن البيت! وإذا كانت اللعب ضرورية لتسلية الطفل وتنمية مداركه، فإن ضمه وتقبيله ومشاطرته ألعابه أكبر ضرورة لنموه نمواً نفسياً سليماً، ولا بد من إظهار حب الوالدين لطفلهما بمداعبته وتدليله من غير إسراف ولا تقتير.
ومن الأخطاء الشائعة، تخويفُ الأطفال بأشياءَ عديدة لزجرهم أو منعهم من عمل ما، أو لحثهم على طاعة وتنفيذ أوامر الوالدين لهم (وما أكثرها!)، مثال ذلك أنْ تخوِّف أمٌّ طفلها قائلة: إذا لم تشرب اللبن فسوف أحبسك بمفردك في غرفة مظلمة؛ أو: إذا لم تفعل كذا وكذا فسوف نعطيك إبرة، أو نحضر كلباً ينهش ذراعك! إلى غير ذلك من أساليب التخويف التي يمارسها كثير من الآباء! وغني عن الذكر أن أساليب التخويف –على اختلاف أنواعها– تغرس في الطفل مخاوفَ تُفقِدُهُ الشعور بالأمن؛ كـــأن يخـاف الطفل من الظلام ومن الحيوانـــات الأليفة، وحتى من الحشرات وغيرها مما لا يجب أن يسبب خوفاً! وقد تتسع دائرة مخاوف الطفل بحيث يفقد تماماً الشعور بالأمان، مما يؤثر عكسياً على شهيته للطعام، وعلى نموه العام، وعلى سلوكه داخل البيت وخارجه، ومثل هذا الطفـل ينشـأ جباناً رِعْديداً، مفتقراً إلى الجرأة وروح المغامرة التــــي يتمتع بها أقرانه الأسوياء.
ويحتاج الطفل من سنٍّ مبكرة إلى قدر كبير من الإحساس بأنه يمكنه الاعتماد على نفسه، ويتجلى ذلك بادئ الأمر في رغبة الطفل في تناول الطعام بنفسه، ثم سـرعان ما تنتشـر رغبته في الاعتمـاد على نفسـه إلى معظم تصرفاته ونشاطه اليومي، ومن الطبيعي أن تنشأ من رغبة الطفل في الاعتماد على نفسه عشراتُ الأخطاء والعثرات، فهو قطعاً سوف يلوث ملابسه وهو يحاول تناول الطعام بنفسه، وقد يلوث المائدة كذلك، وقد تنسكب منه أواني الطعام، وقد تنساب على ثياب والديه، كل هذه الاحتمالات وأكثرُ منها وارد، ومثل هذه التصرفات من جانب الطفل –خصوصا عندما يصر عليها في عناد– تذهب بصواب والديه، بحيث يمكن أن يتصاعد الموقف إلى صراع مرير بين رغبة الطفل في أداء العمل بنفسه، وإصرار والديه على منعه من ذلك! وهذه المواقف تحتاج من الوالدين إلى صبر وكياسة، بحيث تتحقق للطفل رغبته في الاعتماد على نفسه بأقل خسائر ممكنة، مثال ذلك استعمال آنية طعام لا تنكسر (من البلاستيك)، ووضع مفرش من المشمع زهيد الثمن فوق المائدة، مع تغطية ملابس الطفل بصديرية الطعام، وهكذا، المهم ألا تكبح رغبة الطفل في الاعتماد على نفسه إلا في أضيق الحدود، وباتباع أسلوب الإغراء والإقناع (الترغيب والترهيب) سوف يكون الطفل أَليَنَ عريكة وأقل عناداً.